إذا كان من غير المفيد تكرار التنديد بخطاب حسان دياب وما نضح به من انفصام ونكران وتجهيل للفاعل وبطولة زائفة في إحباط مؤامرة وانقلاب، فمن الضروري سؤاله بإصرار عن سبب تقصيره المُشين ليلة استباح أتباع شركائه في الحكومة وأولياء أمره في “المنظومة” وسط بيروت، فلا أمَرَ الجيش وقوى الأمن بالتصدي المناسب، ولا احترم اللبنانيين بإشارة في خطابه الى تلك الليلة السوداء، ولا اعتذر عن ممارسته الجبن الموصوف بدل إثبات حضور الدولة حيث يجب ان تكون.
كان يمكن لحسان دياب، ليل الجمعة – السبت، إثبات نفسه رجل دولة محافظاً على السلم الأهلي على الأقل، فيعوّض عن جزء من فشله في سائر الملفات، لكنه بتردده وامحائه أمام مشغّليه فتح الباب لسجال أهلي مقيت يستبطن كل مقوّمات التنازع المذهبي والطائفي.
هو هذا النوع من سلوك المسؤولين يوقظ الفتن النائمة ويعزّز اعتقاد الجماعات بأنه لا يحمي الطائفة إلا عضلاتها وزعرانها بدل ان يبرهن بالملموس أنّ الحماية منوطة بالدولة وقواها الشرعية بلا شريك. ودياب بذلك فتح الباب للعودة مجدداً الى حديث “الكرامات” والدفاع عن النفس ازاء “الدخلاء”. وهو بلا شك حديث مقيت.
لا شيء اسمه “كرامة بيروت”، مثلما لا شيء اسمه “أشرف الناس”… ردُّ الفعل الغاضب على غزوة “الداون تاون” مشروع وضروري، غير ان استنفار “الكرامات” يأخذنا الى ما هو أبشع من فِعلة الحرَّاقين المعلومين.
ليس هناك مدن او أحياء كريمة. فنَقلُ المشكلة من الحيّز القانوني – السياسي الى تجريد قريب من التقديس يمكن ان يحقق “توازن رعب”، لكنه مدخل طبيعي لإفلات الغرائز مقابل الغرائز، ورخصة تبيح للرعاع مواجهة الرعاع بالأسلوب نفسه خارج أي قيد دولتي.
أن ينتفض السُّنة لـ”كرامة بيروت” او لكرامة “أهل بيروت” دفاعاً عن “مدينتهم” هو آخر ما يطمح اليه اللبنانيون العقلاء أو تريده ثورة 17 تشرين التي أعلَت شعار “المواطنية” على الطائفية والمذهبية وأكدت ان اللبنانيين متساوون تحت مظلة الدستور، فلا أحد أكثر اصالة من غيره، ولا أحد دخيل على “منطقة الآخرين”، وواجب السلطة ان تنتفض لفرض الأمن لا سيما ان العاصمة قبل غيرها تخصُّ كل اللبنانيين.
ومثلُ “أهل السنة” المنتفضين ضد “تحالف الموتوسيكلات” فاعلياتُ “الشرقية” المسيحيون الذين استفزهم مشهد التخريب، وهم محقُّون، لكن استنكاره لا يكون بالتذكير بالصمود أثناء الحرب الأهلية ولا بالتشديد على منعة “المناطق المسيحية”، ذلك ان هذا النوع من الاستحضار يصبّ في مصلحة أدعياء الفرز الطائفي ومتوهّمي “الفدرلة” المستحيلة.
لئلا نصل مجدداً الى هذه الأجواء المريضة وتنزل “اللجان الأمنية” مذكّرة بخطوط التماس وماسحةً الأرض بكرامة السلطة الأمنية، تسعى الثورة الى ان تكون بديلاً فعلياً عن المنظومة الحاكمة التي نهبت لبنان وتتغذى من انقسام اللبنانيين. وهي تريد أولاً وآخراً استعادة كرامة الدولة لإرساء “دولة قانون”، فهي وحدها تضمن كرامة كلّ المواطنين.