لا ينفصل ما يحصل في شوارع بيروت وبعض المناطق اللبنانية عن التجاذبات الاقليمية والدولية، وأبرزها القرار الإيراني بقمع الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، بدءاً من ايران مروراً بالعراق وصولاً إلى لبنان.
تعتبر ايران أنّ ساحات بغداد وبيروت ودمشق جزءٌ لا يتجزأ من السيادة الايرانية، بل تربطها علاقة متينة بطهران وسياستها ونفوذها واستراتيجيتها.
وترى أنّها أحبطت مخططاً أميركياً بزرع الفوضى في هذه العواصم لضرب النفوذ الايراني تحت ستار احتجاجات مطلبيّة معيشيّة واجتماعية واقتصادية ذات أبعاد سياسية.
وقد أكّد المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية آية الله خامنئي هذا الكلام أمس، بأنّ ايران أحبطت مؤامرة خطيرة جداً بعد اندلاع أعمال عنف احتجاجاً على رفع سعر البنزين بنسبة تصل إلى 200 في المئة.
ولعلّ ممارسة «الباسيج» الايراني أعلى درجات العنف في قمع احتجاجات الشعب الايراني، واكبها قرار ايراني لامركزي مماثل في ساحات العراق ولبنان. ففي الأيام السابقة تولّى «الحشد الشعبي» في العراق استخدام السلاح ضد الثوار العراقيين الذين ارهقهم الفساد الحكومي، ويطالبون باستقالة الحكومة. وقد نشر «الحشد الشعبي» القنّاصة لمنع الاحتجاجات، ما أدّى إلى سقوط قتلى وجرحى، إضافة إلى 250 قتيلاً بسبب قمع الشرطة.
وهذا ما يحصل في لبنان منذ أيام قليلة. إذ تشهد مناطق عدة لجوء مناصري «حزب الله» وحركة «أمل» الشيعيتين إلى القوة والعنف في مواجهة المعتصمين السلميين في الانتفاضة اللبنانية السلميّة التي بدأت في 17 تشرين الأول المنصرم.
ويبدو انّ ايران وحليفيها في العراق ولبنان، شعرا في وقت من الأوقات انّ الأمور بدأت تخرج عن سيطرتهم، وراقبوا الدعم الأميركي والدولي لهذه الاحتجاجات، فرأوا فيها استهدافاً واضحاً لنفوذهم تبلور أكثر مع مواقف الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله التي حذّرت من الفوضى ورفضت ما يطالب به المنتفضون كحكومة تكنوقراط مستقلة وانتخابات نيابية مبكرة.
أما في العراق فاتهمت الاحتجاجات الشعبية «الحشد الشعبي» بالفساد وتكريس النفوذ الايراني. ولا تختلف الاحتجاجات في لبنان عن العراق، إذ أطلق المنتفضون، من قلب المجتمع الشيعي، شعارات «كلن يعني كلن ونصرالله واحد منن»، وهذا الأمر ازعج وأقلق «الحزب»، بدليل استخدام أنصاره في مواجهة المعترضين السلميين في «الرينغ» أعمال عنف، وهذا الاداء جاء عن سابق تصور وتصميم بعد نصائح تلقاها نصرالله من قائد «فيلق القدس» الايراني اللواء قاسم سليماني، وفق مصادر دبلوماسية غربية، بأن يكون أكثر حزماً، وأن يضع حداً للاحتجاجات، وقد تلقّى «الحشد الشعبي» العراقي النصائح نفسها، وبادر التنظيمان المسلحان في بيروت والعراق إلى التنفيذ، وما نشهده يومياً من صدامات في شوارع بيروت وبعلبك وصور وغيرها يصبّ في الخانة نفسها.
في موازاة ذلك، اتخذ «حزب الله» القرار بالمواجهة السياسية، انما المواجهة السلبية وليست الايجابية، أي التعطيل الحكومي وتأخير الاستشارات وكل ما يؤدي إلى التغيير ريثما ترضخ كل الأطراف السياسية لشروطه أي حكومة تكنوسياسية.
كثر يتساءلون عن الموقف الروسي المتحالف استراتيجياً في بعض الدول مع ايران والمتقاطع مع توجّهات «حزب الله». وثمة معلومات تشير إلى انّ مصلحة روسيا الاستراتيجية تقضي بالضغط لقمع الانتفاضة في لبنان وتشكيل حكومة تكنوسياسية، وزيارة الموفد الروسي لبنان بعد أيام تدخل في هذا النطاق. لكن أنظار روسيا تتجّه إلى لبنان وتربطه بما يحصل في شمال شرق سوريا والتجاذبات مع الولايات المتحدة هناك حول موضوع السيطرة على النفط، بحيث تستخدم الدبلوماسية الروسية ورقة لبنان كضغط على الاميركيين الذين استولوا على النفط في تلك البقعة السورية. ولن تبادر روسيا إلى اراحة واشنطن في لبنان الّا اذا تقاسمت معها في استثمار النفط هناك.
أما الموقف الفرنسي حيال لبنان فيأتي من اقتناع بأنّه لا يمكن استبعاد كل المكوّنات السياسية الحزبية عن اي حكومة جديدة، وخصوصاً انّها تحظى بتمثيل شعبي كبير وكتل نيابية وازنة، وقد حاول الموفد الفرنسي كريستوف فارنو اقناع جميع المسؤولين السياسيين في لبنان بحكومة تتألف أكثريتها من وجوه تكنوقراط وبعض الوجوه السياسية الحزبية غير المستفزة لتؤمّن غطاءً سياسياً ونيابياً شرعياً عندما تطرح فيها قضايا سياسية، الّا انّ هذا الاقتراح لا يزال يلاقي معارضة من «المستقبل» و«القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، فيما يرفض الاميركيون ما يسوّق له الفرنسيون، وقد أبلغ الموفد الأميركي دايفيد شينكر الى فارنو بأنّ الادارة الأميركية لن تقبل بتمثيل «حزب الله» في الحكومة المقبلة.
المرحلة المقبلة مفتوحة على صراع اقليمي حاد، وليس اكيداً لدى الأميركيين المنسحبين من أزمات المنطقة إن نجح «حزب الله» في قمع الانتفاضة في لبنان أو تلاشت أنشطتها تدريجياً، سيحقق «الحزب» نصراً ويصبح أكثر قوة وهيمنة على البلد.