IMLebanon

«بيروت مدينتي»: جرس إنذار

كثيرون ظنّوا أنّ ترشُّح نادين لبكي ورفاقها في بيروت هو مجرد فيلم ينفِّذه المحترفون في الفن… ولكن الهواة في السياسة. وابتسم كثيرٌ من الحزبيين العِتاق والمفاتيح الانتخابية وخبراء الأحياء والزواريب، وقالوا: «عالْ… هؤلاء هم الخصوم الذين لا يوجِّعون لنا رأسنا»! لكنّ فرز الصناديق شكَّل صدمة لهؤلاء «العِتاق في الكار»، وسيدعوهم إلى التفكير جدّياً بعد اليوم.

اللعبة لم تكن تقليدية في انتخابات بيروت هذه المرّة. لم تكن المواجهة بين 14 و8 آذار، ولا بين لائحة مدعومة سعودياً، يطغى عليها نفوذ السنَّة، مقابل لائحة يدعمها الأسد وإيران و«حزب الله»، ولا بين لائحة ذات طابع مسلم مقابل أخرى ذات طابع مسيحي.

كانت هناك لائحة واحدة، سياسية، انضوى تحتها كلّ الذين كانوا يتصارعون في الجولات السابقة، لتولد في وجهها لائحة تمثّل «المجتع المدني». ومع فرز الأصوات، تبيَّن أنّ اللائحة الثانية لم تكن «مزحة». إنها جدّية جداً، بل أكثر جدّية من اللائحة السياسية.

كيف وُلدت لائحة قادرة على تحصيل قرابة 31 ألف صوت مقابل قرابة 44 ألفاً للائحة السياسيين، أي نحو 41.5 في المئة من أصوات المقترعين مقابل 58.5 في المئة؟ فهذه النسبة مثيرة للاهتمام، لأنّ اللوائح السياسية المتصارعة تبذل الجهود الخارقة عادةً، وتستنفد القوى والعصبيات والغرائز لتحصل على نسبة أقلّ منها.

ولو كان النظام نسبياً لحصلت ولكان هناك 10 أعضاء من المجتمع المدني في المجلس البلدي في بيروت، من أصل 24.

السياسيون يتبادلون الاتهامات بالمسؤولية عن الخسارة (على رغم الفوز): الحريري و»القوات»، والحريري و»التيار»، والعونيون في ما بينهم. ولكن ربما لا وقت لديهم ليحلّلوا علمياً ما جرى.

1 – إنّ لائحة «المجتمع المدني» جاءت بعد إنضاج الرأي العام بسلسلة تحرّكات اعتراضية في بيروت، ولاسيما «الحراك المدني» الذي كان ناشطاً في الأشهر الأخيرة.

2 – هذا الحراك غذّاه التفجُّر اللافت للفضائح، في شكل غير مسبوق، بدءاً من تلك التي أثارها وزير الصحة وائل أبو فاعور في قطاعات الصحة والبيئة وصولاً إلى أزمة النفايات التي تكفَّلت برفع مستوى النقمة الشاملة لدى الناس في كلّ المناطق، وسوى ذلك. والفضائح مربوطة غالباً بأركان الطبقة السياسية التي ظهر فسادها، ولم ينجُ منهم إلّا القلائل.

3 – إستتباعاً، وُلدت لائحة المجتمع المدني في أجواء النقمة وتحميل الطبقة السياسية إياها المسؤولية عن تعطيل المؤسسات: رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس وتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع بالناس إلى الإحباط والهجرة.

4 – إنّ عجز القوى السياسية الكبرى عن إقناع الناس بالنزول إلى الأقلام والاقتراع لمصلحتها كان قياسياً، ما يؤشّر إلى واقع مأزوم بين الناس والطبقة السياسية. ولذلك، جاءت نسبة الاقتراع ضعيفة حتى في معاقل «المستقبل». وفي المناطق المسيحية تبيّن أنّ هناك طلاقاً نفسياً بين الناس والأحزاب كلها، لا بينهم وبين «المستقبل» وحده.

5 – لا تملك لائحة المجتمع المدني ما تشجع به الناس، لا الخدمات ولا المال، ولا تمتلك السلطة ولا الماكينات القديمة الخبيرة ولا المخاتير ولا

تستعين بقبضايات الزواريب، ولا سلاح طائفياً أو مذهبياً تستخدمه للتعبئة والتجييش. ومع ذلك خاضت معركة وازنة.

ما هو سرّ هذه القوة، وما الذي ينقص «المجتمع المدني» ليخوض معركة رابحة في الاستحقاقات المقبلة، النيابية ثمّ البلدية؟

يجدر أوّلاً إعطاء الحريري حقَّه والاعتراف بأنه خاض المعركة بمقدار عالٍ من التجرُّد، على رغم أنّ وزارة الداخلية في يد «المستقبل». ولم يسجِّل عليه الخصوم مآخذ حقيقية. ثمّ إنه تصرّف ديموقراطياً في التعاطي الإيجابي مع الخصوم بعد انتهاء المعركة.

أما المعارك المقبلة فعلى الأرجح ستشهد تعميماً لنموذج بيروت في لبنان كله. وثمة مَن يعتقد أنّ لائحة المجتمع المدني في بيروت ستطوِّر حراكها في المسافة الفاصلة عن الاستحقاقات المقبلة، النيابية تحديداً، وهي ستخوض الانتخابات النيابية المقبلة بلوائح على مستوى لبنان بأسره.

يعتقد بعض الباحثين أنّ استفاقة «المجتمع المدني» تأخّرت 11 عاماً، لأنّ ولادته الطبيعية كانت منتظرة بعد زوال الوصاية السورية على لبنان وانطلاق «انتفاضة الاستقلال».

فالتغيير في ذلك الحين كان يجب أن يشمل الطبقة السياسية أيضاً. لكنّ ذلك لم يحصل لأسباب عدة:

1 – عدم وجود أرضية شعبية كافية لتحقيق التغيير.

2 – إستئثار الطبقة السياسية إياها بالسلطة وتحكّمها بقانون الانتخاب وتعطيل الاستحقاقات.

3 – إحتفاظ «حزب الله» بسلاحه وقرار الحرب والسلم.

4 – تسعير الخطاب المذهبي والطائفي بتأثير من الصراعات المحورية الدائرة في المنطقة.

5 – إنخراط قوى لبنانية في الحروب الأهلية الإقليمية التي بدأت في 2011.

ويعتقد بعض المطلعين أنّ هناك خيطاً رفيعاً ربط بين تفجير مسلسل الفضائح على مدى العامين الأخيرين، والذي انتهى بالحراك المدني ثمّ بخوض المجتمع المدني تجربته الأولى مع الانتخابات. وأما على المستوى السياسي فالفضيحة المستمرة هي عملية التعطيل الشاملة لعملية التغيير الديموقراطي.

ويوحي ذلك بوجود عملية مترابطة العناصر: تعطيل المؤسسات إلى حدّ شلّ النظام نهائياً، ثمّ تثوير الناس على الطبقة السياسية التي ترعى هذا النظام، ثمّ تغييرها لإنتاج نظام جديد.

وهناك مَن يعتقد بأنّ هناك تزامناً بين هذه العملية في لبنان وملامح التغيير التي بدأت تلوح على مستوى الكيانات في الشرق الأوسط. فالمنطقة بأسرها تتغيَّر، ولبنان جزء من هذا المسار.

ولكن، مَن يعطِّل الانتخابات والاستحقاقات هو حتى اليوم محور إيران، من خلال «حزب الله». وأما عملية «التثوير» التي تتكفَّل بإنضاج الحراك الشعبي وإنهاض المجتمع المدني فيعتقد كثيرون أنها تتلقّى دعماً أميركياً، ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد.

وفيما يَغضّ الأميركيون الطرف عن استمرار تعطيل الانتخابات الرئاسية والنيابية، فالإنتخابات البلدية جرى فرضُ إجرائها على رغم رفض معظم القوى المحلية النافذة لها.

وتبيَّن أنّ هناك رغبة دولية في إثبات حيوية المجتمع المدني في إنتاج إداراته المحلية. ويؤكد ذلك أنّ المسار الذي يسلكه لبنان ممسوك دولياً. ويجدر في الوقت عينه التفكير في أنّ «اختلاف المزاج» داخل الدوائر في بيروت قد يشجع الاتجاه لاحقاً إلى لامركزية بلدية.

وصحيحٌ أنّ إيران تريد تغيير النظام لتكريس نفوذها، وهي تعطّل انتخاب رئيس للجمهورية، ولو من حلفائها، وتشلّ المؤسسات، انتظاراً للمؤتمر التأسيسي، لكنّ الأميركيين، من زاوية أخرى، يعتقدون أنّ المهم هو إبقاء لبنان تحت سقف الإستقرار الأمني (الجيش) والمالي (مصرف لبنان).

وفي الموازاة، لا مشكلة لدى الأميركيين في ترك النظام القديم يهتزّ، وفي دعم الحراك المدني في الشارع والانتخابات. فهذا المسار سيسهّل الظروف لولادة النظام الجديد، الملائم للتغيير المنتظر على مستوى الشرق الأوسط بكامله.

وفي الأشهر الأخيرة، سمع سياسيون لبنانيون انتقادات أميركية حادّة للطبقة السياسية اللبنانية التي تبدو غير جديرة بإدارة البلد في ظلّ التحدّيات الإقليمية المتزايدة.

إذاً، «بذرة» المجتمع المدني التي ظهرت في بيروت في الجولة البلدية الأخيرة ليست صدفة، بل هي مدعومة بغطاء دولي يحميها من الضربات التي ربما يفكّر السياسيون في توجيهها إليها. ولذلك، تجرّأت وحيدةً في مواجهة «اللائحة السياسية».

وتوحي المؤشرات المتلاحقة بأنّ مسار التغيير قد انطلق، وبأنه مدعوم. ولكن، على الطريق، ستحاول إيران تحويل مساره في الاتجاه الذي تريده، ضمن مشروعها الشرق أوسطي. وستتمسك الولايات المتحدة بمشروعها للشرق الأوسط الجديد أيضاً.

وقد يلتقي المشروعان في مكان ويتصارعان في مكان آخر، ويتوافقان في مكان ثالث، لكنّ لبنان أيضاً سيشهد سقوط نظامه القديم، كما كلّ الكيانات في الشرق الأوسط!