المدينة هي الحياة، المدينة هي التجدد والانفتاح، المدينة هي الخلاص من الجمود الذي تعتقد الأرياف أنّه سبب البقاء، يحرص الريفيون على تقليد الآباء والأجداد وتكرار الماضي، مما يجعل من التغيير تعدياً على الوجود، إنّ هجرة الأفراد من الريف إلى المدينة قدر محتوم أنبياء كانوا أم علماء أو حالمين بسطاء أو لديهم شيء من حب الحياة بما هي تجدد وتكيّف مع ضرورات الزمان.
لكلّ حضارة مدينة، ولكل رسالة مدينة، ولكلّ دولة مدينة، أما في لبنان وما يسمى بالمجموعات المكوّنة للتجربة اللبنانية فإن بيروت هي المدينة الوحيدة على الإطلاق التي استضافت الريفيين عملاً وعلماً وابداعاً في كلّ ناحية ومجال، فتعرفوا فيها على أنفسهم وطاقاتهم، وتكيفوا في وجودهم بعيداً عن الماضي وظلم الأرياف وسارت بهم نحو المستقبل والحياة.
نجحت بيروت المدينة في احتضان تجاربهم ونجاحهم وفشلهم، دون أن تستطيع اقتلاع ريفيتهم من وعيهم وتكوينهم، وذلك لقرب المسافات بين بيروت المدينة والأرياف، بقي هؤلاء بين الريف والمدينة على الدوام، فأصبحوا مدينيين في إقامتهم، وريفيين في حقيقتهم، وبداخلهم جراح الأرياف القاسية على عموم الأفراد، مما يجعلهم في حالة غضب أو ثأر مع أنفسهم، يريدون بشكل دائم أن يعترف الريف بفرادتهم وبتمايزهم وذلك محال، لأنّه لا نبي في قومه، وليس صدفة أن يكون لكلّ نبي من الأنبياء قصة هجرة من الريف إلى المدينة.
لماذا نكرر دائماً نحن الريفيين الفعل عينه حين نمارس حقدنا على بيروت المدينة؟ فنحرقها وندمرها ونمارس بحقها كلّ أشكال العدوان، وهي أعطتنا دائماً ولم تأخذ منّا أي شيء على الإطلاق، لماذا نكون نحن الريفيون دائماً أدواتً للخراب لبيروت المدينة وذلك نصرةً لأسيادنا في الريف من تقليد الى إقطاع قديماً كان أو جديداً ؟ لماذا نحن الريفيون الذين وجدنا في المدينة خلاصاً من ذل الريف وقهره وتخلفه القبلي والطائفي والمذهبي والعائلي حيث لا نزال أسياداً وعبيداً؟ ولماذا نحن أحرار المدينة من الريفيين نحنّ دائماً الى عبودية الريف ونحاول ترييف المدينة؟
نحن الريفيون دمرنا بيروت مرات ومرات باسم اليسار واليمين والعروبة والحرمان والمسيحية والإسلام، وكنّا دائماً في هياكل مدينية أو أدوات لأحزاب التعصب والخراب والدمار، لماذا حين تقْبلُنا بيروت المدينة نريّفها في عمراننا وحركتنا ونحوّل الإدارات التي نديرها الى مزارع متخلفة ؟ فلا تعود الجامعات جامعات، ولا الإدارات إدارات ، هل في ذلك تعبير عن الهزيمة العميقة في نفوسنا أم لأنّنا جبناء أم أنّ وجودنا في بيروت المدينة هو لجوء وليس خياراً ؟
نحن الريفيون الفاشلون وغير القادرين على إنجاز أي شيء في أريافنا حيث لا يزال القديم على قدمه، ولا تزال اشكالية عدم الاعتراف بالأفراد كما هي محال في محال، وها نحن نعود إلى قديمنا الجديد وهو أنّنا بعد أن لبسنا اليمين واليسار والطائفية وحملنا السلاح، نحاول أن ندمّر بيروت المدينة باسم الحداثة والتقدم والبيئة والمحاسبة وحقوق الانسان، وهي عناوين جديدة جداً ولكن أدواتنا مع الأسف الشديد قديمة جداً جداً.
قبل أربعين عاماً كنت مع الذين حطموا إشارات المرور باسم التقدم، والذين قتلوا باسم الحياة، والذين سرقوا ونهبوا باسم العدالة، والذين دمروا المدينة باسم الحداثة، وها نحن الآن نشاهد تكرار مأساة بيروت المدينة مع المجتمع المدني الريفي وبنفس الوجوه والأدوات.