يُسجّل للطبقة السياسية قدرتها الدائمة في وضع لبنان على مصاف الأزمات، وبشكل أدق قدرتها في اختلاق الأزمات ودفع ما تبقى من مكوّنات وأشباه مؤسسات نحو خيارات ملزمة لا تفضي سوى إلى صدامات أكيدة في كلّ الإتّجاهات. طبعاً من نقصدهم من الطبقة السياسية هم أصحاب القيود والشروط على المؤسسات الدستورية والقضائية، وهم القيّمون بالقوة على سياسة لبنان الخارجية ومرافقه الإقتصادية والخدماتية كافة، حيث يبدو كلّ شأن لبناني وكأنه على حافة الإنهيار أو الإنفجار. وفي هذا السياق لا تبدو العودة المقيّدة للحكومة الى الإجتماع كأنها استدراك للفراغ الذي فُرض عليها والذي تسبب بتعطيل التواصل مع صندوق النقد الدولي أو مناقشة خطة النهوض الإقتصادي بل لوضعها في الإستخدام كمنصّة إضافية لمواجهة المجتمع الدولي أو لمواجهاتٍ في الداخل على السواء.
لم تبدِ الدولة اللبنانية أي تفاعل مع البيان الصحفي الذي أصدره مجلس الأمن في الرابع من الشهر الحالي بما يؤكّد أنّ جردة الحساب التي أجراها مجلس الأمن لمدى التزام لبنان بالقرارات الدولية 1559 و1701 و 1680 وإعلان بعبدا – التي وردت في متنه – هي غير واعدة ودون مستوى الحدود الدنيا. المعاينة الدولية القريبة للوضع اللبناني التي تطرقت الى حث الحكومة على إبرام اتّفاق مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ الإصلاحات وإجراء الإنتخابات النيابية في موعدها وإجراء تحقيق سريع ومستقل ونزيه وشامل وشفاف في التفجيرات التي ضربت بيروت في 4 آب 2020 وفي الإعتداءات التي حصلت على قوات اليونيفيل، تدل أنّ لبنان يقف على عتبة إستحقاقات دولية سترسم تبعاتها سمات المرحلة المقبلة.
يصرّ حزب لله على الإستمرار في إدارة الحكومات اللبنانية لاعتماد سياسة التسطيح في التعامل مع العناوين الآنفة الذكر، وهو نجح حتى الآن في إخراجها من إطارها الوطني المحلي وإلحاقها بمشهد إقليمي نسجت خيوطه وأدارته طهران، حيث لاقت الطموحات الإيرانية في توظيف الملفات السياسية لدول المنطقة الرغبة الأميركية في اختبار نظرية الفوضى البناءة، والإمعان في إغراق لبنان والعراق وسوريا في صراعات مذهبية وإدخال المنطقة في حروب استنزاف لا تنتهي. وفي هذا الإطار، يتمايز البيان الصحفي الأممّي عن المألوف بدعوة الحكومة لإجراء الإنتخابات النيابية في الخامس عشر من أيار/ مايو القادم، وهو على ما يبدو الإستحقاق غير القابل للتسطيح والدخول في متاهات التأجيل، مما يشكّل في ظلّ الظروف القائمة من فيينا إلى لبنان مروراً بالعراق تحدياًّ أمام حزب الله ومن خلفه طهران لإنتاج شروط التعطيل الموضوعية.
تتخذ المواجهة غير المعلنة مع الإستحقاق الإنتخابي شكليّن سياسي وأمني:
تعتمد المواجهة الداخلية السياسية على شلّ عمل الحكومة من خلال مقاطعة جلساتها، وتحويل ذلك إلى مشكلة ميثاقية. وترتسم ملامح هذه المواجهة من خلال بوادر الإعتراض على توسيع جدول أعمال الحكومة بخلاف الشروط التي وضعها كلّ من حركة أمل وحزب الله للمشاركة في جلساتها، وبالمواجهة التي بدأت بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وفريق رئيس الجمهورية من خلال رفض الحكومة تضمين الموازنة سلفة خزينة لصالح كهرباء لبنان وهو ما يهدد عبور الموازنة من الحكومة وربما تعطيل إقرارها في المجلس النيابي. وقد أضاف جدول الأعمال المقترح للجلسة القادمة مسألة خلافية أخرى وهي اقتراح تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية الذي يقوّض صلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز، وسيكون له تداعياته على التحقيقات في ملف تفجير مرفأ بيروت وربما على كلّ الملفات القضائية المفتوحة. ولا يستثنى من محاولات شلّ الحكومة تكرار مواقف الأمين العام لحزب الله برفض التفاوض مع صندوق النقد الدولي لتبرير مقاطعة جلساتها.
أما في المواجهة الأمنية، فهي تعتمد على الترويج لاخترقات أمنية إسرائيلية أو سلفية جهادية في بعض المناطق، بما يضع الأولوية الأمنية فوق كلّ اعتبار ويقدّم المبررات لإجراءات أمنية تقدّم إستقراراً مزعوماً على العملية الإنتخابية. وفي هذا الإطار لا بدّ من التساؤل حول ما تروّجه بعض صحف ومواقع الممانعة عن عودة نشاط داعش إلى المنطقة، والتسويق لوجود عشرات الخلايا الإرهابية والتحاق شبان من شمال لبنان بالتنظيم الإرهابي، هذا بالإضافة إلى التسويق لوجود عشرات المتعاملين مع العدو الإسرائيلي في مختلف المناطق اللبنانية ومن كافة الطوائف بالإضافة إلى اختراقات إسرائيلية للأجهزة الأمنية، وهو ما اضطر شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي إلى إصدار بيان نفت من خلاله أي اختراق ودعت الصحف المذكورة الى استقاء المعلومات من المصادر ذات الصلة. واستكمالاً للمشهد لا بدّ من مقاربة ما يجري في العراق بعد الإنتخابات التي خسرتها الفصائل التابعة لإيران، حيث حذّر رئيس مؤتمر صحوة العراق أحمد أبو ريشة بالأمس رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض من حصول أي زعزعة في أمن محافظة الأنبار بعد دخول أرتال عسكرية تابعة للحشد إلى المحافظة، مع مواكبة دائمة من قائد فيّلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني الذي وصل منذ يومين إلى بغداد .
يرفض العراقيون بكلّ شجاعة، بعد الإنتخابات النيابية، استنساخ التجربة اللبنانية في تعطيل إنتاج السلطة التي ابتدأت منذ اتّفاق الدوحة وأدّت إلى انهيار لبنان، فيما ينظر اللبنانيون للإنتخابات القادمة كمدخل لطيّ تلك المرحلة المظلمة دون عودة برغم من الأثمان والتضحيات الماثلة أمامهم، فما زالت الجغرافيا تصنع التاريخ، هذا هو قدر بيروت وهذا هو قدر بغداد .
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات