في الوقت الذي تميل الدول التي عُرفت بمناهضتها لنظام بشار الاسد إلى التأقلم مع الواقع الجديد، تتّجه الدول التي كانت داعمة لهذا النظام وحامية له إلى إعادة النظر في مواقفها والانفتاح على هذا الواقع إنطلاقاً من محورية دمشق في المنظومة الاقليمية والعربية، واحترام قرار الشعب السوري في خياراته.
يقول خبير سياسي، إنّ تدمير إسرائيل لقدرات الجيش السوري بغرض إفقاده اي دور مستقبلي له يمكن أن يشكّل خطراً عليها، أو أن يحقق توازناً ولو بحدّه الأدنى، لا يعني إلغاء سوريا من لائحة الدول ذات الموقع والحضور، نظراً إلى مكانتها الجيوـ سياسية اياً يكن شكل النظام. ومن هنا تقاطع الموقف الدولي والعربي على ضرورة مساعدة السلطة الجديدة في دمشق التي ستنشأ بعد الترتيبات الدستورية التي ستتخذها الحكومة الانتقالية، والتي من شأن مفاعيلها رسم ملامح المرحلة المقبلة في هذا البلد الذي يمتلك حدوداً مشتركة مع لبنان وفلسطين المحتلة والاردن، والعراق وتركيا.
وما يهمّ لبنان في هذا المجال، بحسب الخبير عينه، أن يبني علاقة ثنائية متوازنة، مميزة ومتمايزة في آن، وذلك من أجل الاستقرار في كلا البلدين. فلا تتدخّل سوريا في شؤونه، ولا إغضاء من جانبه عمّا يمكن أن يشكّل خطراً على أمنها. وإنّ التصريحات الصادرة عن مختلف القوى السياسية اللبنانية تفاوتت بين التأييد غير المشروط للتغيير الذي حصل في البلد المجاور، أو التأييد ولكن…! تخوفاً من مستجدات تبعث على القلق من تطورات ما تتعلق بالداخل السوري، قد تكون لها تداعيات تنسحب على لبنان، خصوصاً اذا تكرّس على الأرض أمر واقع يشتم منه مساساً بوحدة الدولة، أو إبداء الاستعداد لفتح صفحة جديدة بعد فترة ترقب واختبار. وعلم أنّ هناك اتصالات قد بدأت مع الحكومة الانتقالية بواسطة القنوات الرسمية، خصوصاً الأجهزة العسكرية والأمنية في البلدين، وأنّ الأمور سائرة بين الجانبين على نحو مرضٍ وذلك في انتظار انتخاب رئيس جديد في 9 كانون الثاني 2025، وتشكيل حكومة جديدة، وانتظام عمل المؤسسات بعد طول شلل بسبب الاعتداء الإسرائيلي الذي خلّف أضراراً جسيمة في كل المناطق اللبنانية، وكلّف البلاد خسائر كبيرة لا تعرف كيف تتجاوزها إذا لم تفِ الدول الكبرى وتلك المقتدرة المعنية بالأزمة. وإنّ تحرّك «اللجنة الخماسية» سيتعدّى الملف الرئاسي إلى ما يحصّن إتفاق وقف النار الرقم 1701، والمساعدة السياسية والديبلوماسية التي تؤدي إلى إيجاد بيئة جاذبة للاستثمارات الخارجية، وإعادة الحياة إلى الدورة الاقتصادية. وبعيداً من انتظارات اللبنانيين للاستحقاق الرئاسي، فإنّ الهاجس الأساس هو توفير قاعدة لقاء مشتركة، ولو في حدودها الدنيا بين الأفرقاء، تكون مدخلاً لتفاهم دائم غير قابل للاهتزاز في المدى المنظور، على أمل الرسو على صيغة حل دائم. فلبنان عليه أن يتصدّى، نتيجة الوضع المستجد في سوريا، لتحدّيات جمّة، أبرزها:
1- طريقة ضبط الحدود اللبنانية – السورية، وهي حدود طويلة ومتداخلة لا يكفي الاتكال على الجيش، والامن العام، والجمارك فحسب لضبطها، بل يفترض وضع آليات تفاهم بين سلطتي البلدين استناداً إلى القوانين الدولية، واتفاقات ثنائية واضحة ومتوازنة، لضمان حسن التطبيق.
2- إعادة قراءة معاهدة الاخوة والتنسيق بين البلدين وتقويمها، لجهة إلغائها أو تحريرها من المواد التي لا تتناسب مع مقتضيات السيادة الوطنية اللبنانية، بل وتتناقض معها، لتأتي متوازنة وقادرة على تأمين المصالح المشتركة للبلدين.
3- إعادة النظر في الاتفاقات الاقتصادية، التجارية، والترانزيت، المعقودة بين لبنان وسوريا منذ العام 1943 إلى اليوم، والاستمرار في ما يصلح منها، وتعديل ما هو قابل للتعديل، وإلغاء ما يجب الغاؤه.
4- التمسك بحق لبنان في رفض إبقاء النازحين السوريين في لبنان، بعدما سقط النظام ولم تعد الذرائع التي رفعها هؤلاء لتبرير عدم عودتهم إلى وطنهم الأم قائمة وصالحة للاستخدام.
وعلى رغم من الكلام الهادئ للأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم في شأن نظرة الحزب إلى ما جرى في سوريا، واتصال النائب والوزير السابق وليد جنبلاط بأحمد الشرع (الجولاني) والاتفاق معه على زيارة قريبة إلى دمشق، فإنّ ثمة حاجة للبدء في تحضير الملفات الخاصة بالعلاقات بين البلدين لتكون في تصرف رئيس الجمهورية الجديد، والحكومة التي ستخلف حكومة تصريف الاعمال، للمباشرة في محادثات تضع ألاسس السليمة لمرحلة جديدة مختلفة بين البلدين. وهنا يبرز دور للدول الداعمة للعملية الانتقالية في سوريا، ولا سيما منها تركيا وقطر، للمساعدة في تركيز العلاقات بين بيروت ودمشق على قاعدة صلبة، فلا تترنح عند أول امتحان. من دون إغفال النقاط الخلافية حول كثير من الملفات بين البلدين منذ عهود الاستقلال الاولى، بمعنى أنّ هذه النقاط كانت موجودة عندما كانت الحياة الديموقراطية في سوريا في أوجها، ثم مع السلطات التي جاءت بها الانقلابات العسكرية، وصولاً إلى حكم حزب البعث، وما من شيء يمنع بقاءها في المرحلة المقبلة مع الحكم الجديد، إذا لم تُعالج بحلول جذرية ونهائية.
ويقول خبير في الشأن السوري، إنّ التفاؤل قائم وله ما يسوغه بعد سقوط نظام الاسد، لكن لا يجوز الإفراط فيه وتوقّع المعجزات، قبل اتضاح مآلات الأوضاع، مخافة أن تكون سوريا في مرحلة التحولات الكبرى التي تعيشها مفتوحة على صراعات دولية ـ اقليمية، وعربية ـ عربية، تؤخّر عبورها إلى سلام مستقر ومستمر، وهذا ما يجب التنبّه له ومراقبته. ويضيف: «مما لا شك فيه أنّ الوضع في سوريا ولبنان أفضل بأشواط مما كان عليه في الفترة الاخيرة. لكن انقشاع الغيوم الداكنة، واتضاح النيات، ومعرفة الخيارات النهائية للقوى المعنية مباشرة او غير مباشرة فيهما، ستستغرق وقتاً، وسيترتب عليها بناء مقاربات اكثر موضوعية. وفي خلاصة القول إنّ إيضاح وتنقية العلاقة مع سوريا الجديدة، ستكون أولوية العهد الجديد في لبنان، وعندها يمكن معرفة النيات والاتجاهات، ويمكن أيضاً الاستنتاج، هل إذا كان تردّي العلاقات اللبنانية – السورية الرسمية في كثير من الأحيان هو عطب بنيوي لازمها منذ ولادة دولة لبنان الكبير عام 1920، يتعلق بنظرة حكام دمشق وولاة الأمر فيها ورأيهم العقائدي والسياسي في نشوء الكيان اللبناني كدولة مستقلة ذات سيادة، او أن توالي السنين وتبدّل الاوضاع وتحوّلها وتغيّر المعطيات، سيتقدّم على الموروثات العقائدية والسرديات القومية في الوحدة الشاملة على اختلاف اشكالها، فتحلّ النظرة الموضوعية مكان المواقف المبدئية؟ إنّ العام 2025 لناظره قريب. وإنّ متتبع أحداث التاريخ يجد من دون كبير عناء أنّ الأمور بخواتيمها، وأنّ التطورات والوقائع هي التي تحدّد شكل العلاقة اللبنانية – السورية ومستقبلها، والتي لم يكن فيها من عوامل الثبات إلّا التقلّب والتبدل من حال إلى حال».