أصبحت بيروت مدينة إصطناعية، باطونية وبلاستيكية، وباتت بالشكل تشبه النساء المدمنات على عمليات النفخ والتجميل… ولكن في مضمونها زواريب لا يعرفها سوى أهلها وعشّاقها، وفي بيروت، بيوت لا تروي قصصها إلّا لمن يطرق بابها… وفي بيروت ممثل مُبدع إسمه زياد عيتاني يراقص نصّ يحيى جابر، لينقل المشاهدين إلى أسرار كل بيت من بيروت.
عندما تصل إلى مدخل مسرح «تياترو فردان» في بيروت، ينقلك الديكور تلقائياً من الحاضر المصطنع إلى مرحلة زمنية باهرة، كالتي كانت تعيشها بيروت في «أيام العزّ»، وتستعدّ مع قاطعي التذاكر المكتظين على الباب للدخول إلى فكر الكاتب يحيى جابر الذي قدّم في هذا المسرح ثلاثية بيروتية ابتدأت مع مسرحية «بيروت طريق الجديدة»، ومن بعدها «بيروت فوق الشجرة» ومن ثم آخرها «بيروت بيت بيوت»، وكانت جميعها بأسلوب المونودراما التي قدّمها وحيداً الممثل زياد عيتاني.
لا تعرف كم أنت غريب عن مدينة بيروت التي تقطنها منذ أكثر من عشر سنوات، إلّا عندما تشاهد مسرحيات يحيى جابر، وتتعرّف مع زياد عيتاني إلى أسرار بيوت هذه المدينة وأخبار أهلها وعاداتهم… فحتى المشاهدين في غالبيتهم هم من أبناء بيروت، الذين أتوا لنبش قصصهم القديمة، وامتطوا النوستالجيا الشعبية للبحث عن حكايات وعادات أهلهم وأجدادهم، التي قتلتها الحرب اللبنانية، ومثّلت بجثثها الميليشيات.
في «بيروت بيت بيوت» يلمس المشاهد حقيقةً، أن هول الحرب لا يكمن في عدد الضحايا التي تحصدها فقط، بل بشاعة الحرب هي في عدد الوقائع التاريخية والجغرافية والإجتماعية التي يمكنها أن تخفيها تحت سجادة الإجرام واللامبالاة، وفي كمية العادات والتقاليد التي يغتصبها النازحون من الأرياف، والمتعدِّين على قداسة مدينة عمرها آلاف السنوات.
ومثله مثل المشاهد، فإن بطل المسرحية زياد عيتاني، الذي يُجسِّد إبن بيروت السنّي الأصلي، هو بدوره ضحية، ولكن من نوع آخر… فهو قد ولد خائفاً من صوت الرصاص نهار الأحد 13 نيسان 1975، ولم يشأ مغادرة رحم أمه إلّا بمساعدة جارتيها المسيحية والشيعية، فرضع من الأولى وتزوّج إبنة الثانية… فجسّد آخر علاقة «ménage à trois” وطنية ووجودية بين المكوّنات الأصلية لمدينة بيروت.
لا يرى يحيى جابر في تعقيدات بيروت السياسية والإجتماعية والتاريخية أكثر من كونها قصة عائلة نموذجية منقسمة على نفسها وعلى مصالح أفرادها، وتنتظر على رصيف جنون أبنائها حتى تصحو لتعود إلى رشد التاريخ الذي يبقى الأب الشرعي والوحيد لكلّ ذرّيتها. فمهما تبدّلت القصص وتطوّرت الأحداث، ومهما علت بنايات الميليشيات ومهما «ابيضّت» أو «اسودّت» عباءات رجال الدين، ستبقى قصّة هذه المدينة قصة علاقة غرامية أفلاطونية بين السنّة والشيعة والروم.
غريبة هي قدرة الممثل زياد عيتاني على التلاعب بصوته وبحركة جسده، فينتقل بسرعة من شخصية إلى أخرى، حتى يُنسيك أن ما تشاهده هو مونودراما، فيملأ الخشبة بزحمة شخصيات تتنطّط يميناً ويساراً، تتراقص وتغنّي، تتألّم وتفرح، تغرق في الكآبة وتتعمشق على النشوة، ويصارع نفسه في المشهد الواحد ما يكفي من المرّات لملء أدوار عشرة ممثلين.
ثلاث مرّات شاهدنا فيها زياد عيتاني في نصّ يحيى جابر، وفي المرات الثلاث وقعنا أكثر وأكثر في حُبّ مدينة بتنا نعرفها أكثر، ونفهم أسرارها ونتلذّذ بإختلافاتها.
صحيح أن بيروت بعد الحرب لم تعد تشبه بيروت قبلها، وصحيح أن الساكنين فيها اليوم لم يعودوا يشبهون سكّانها، بل يشبهون طائفيتهم وإنقساماتهم… وطالما بيروت قادرة على إغواء اللبنانيين واللبنانيات بحبّها، فلن تتمكّن أي مدينة في العالم من سرقة قلوبهم حتى لو لفتت أنظارهم.
وفي انتظار جرعات إضافية من الغرام البيروتي في رباعية أو حتى خماسية، نستطيع القول أن المرأة البيروتية التي تُحرِّك «المفتّقة» بيمينها، تُحرِّك التاريخ بيسارها.