IMLebanon

بيروت المُختلفة

قال لي مثقف سوري أتابع تعليقاته اللاذعة حول أوضاع بلاده منذ انفجارها قبل أربعة أعوام، إن استقراره في بيروت لطالما كان حلمًا، لكن المدينة إذ يعاينها اليوم عن قرب وهو من سكانها، تبدو كذبة كبرى!

وقال لي زميل له باع طويلٌ في الصحافة، إن أبرز ما يميّز النظام اللبناني هو أنه عَصِيٌّ على الإصلاح «من الداخل»، مُستشهدًا بتجربة الوزير السابق شربل نحاس، التي لم توفر الطبقة السياسية عصا إلا ووضعته في عجلاتها، كما أنه عَصِيٌّ على الإصلاح «من الخارج»، وتجربة حنا غريب النقابية شاهدٌ على ذلك، حيث تكتلت القوى الحزبية كافة، من طــرفَي النقيض في البلاد، لإسقاطها واستبدالها بأخرى.

ولبيروت تاريخٌ مديد من التجارب، منها ما كان متقدّمًا على جواره، ومنها ما كان ناسخًا لأزمات هذا الجوار، أو مكبِّرًا لها ولتناقضات لبنان التي ما مرّ عقدٌ منذ الاستقلال، إلا وظهرت خلاله طافحةً على سطحه. وقد كان يحلو للبعض تسمية بيروت قبيل الحرب الأهلية وخلالها بـ «مختبر» العالم العربي، بما يحمله هذا الوصف من معنىً فوضويٍ سلبي… وآخر تجريبيٍ مُفيد، في السياسة والثقافة وخلافها.

وللنظام اللبناني أزماته البنيوية التي تستعصي معها الحلول من دون مباركة القيّمين على الحصص الطوائفية ومتقاسمي مغانمها. ولهذه الأزمات البنيوية أثقالٌ على الحياة بنواحيها كافة، وبيروت مرآةٌ مركزية تعكس هذه الأثقال. علمًا أن الفجوة بين العاصمة وبعض المناطق، لناحية اختلاف أنماط التفكير أو طرق المعاش أو حتى لجهة التحديات اليومية، إنما تعكس خللًا في العاصمة نفسها، التي تلفظ ســـكانًا لا يماثلون معايير حركة السوق الريعية فيها.

في النظريات الحديثة للفضاء العام public space يبرز مفهوم شاع تداوله منذ الثمانينيات في الغرب، يسوّق لفكرة الربط بين المظاهر المدينية وأساليب عيشٍ مشتقةٍ من حياة الريف، أكثر ملاءمةً لحياة الفرد الصحية والاجتماعية والثقافية. هكذا، عمد القائلون بفكرة المدينية الجديدة new urbanism إلى إنتاج تصورات يمكن من خلالها المواءمة بين مقتضيات الحياة المدينية ومغريات العيش في الأرياف، في مرحلة ثبّتت فيها الثورة الصناعية مكانتها في المدينة، وبلغت الثورة الرقمية فيها مبلغًا أيضًا. ويقوم عماد النظرية على تصميم مديني يسمح بتقليص الاعتماد على السيارات وتوسيع هوامش المساحات العامة والخضراء. وبرغم صعوبة تطبيقها في المدن الناشئة الكبرى، إلا أن الإفادة من بعض جوانبها يَظهر بتدرجٍ سريع، في أوروبا تحديدًا، ويمكن القياس هنا على نتائج ذلك في باريس ولندن مؤخرًا.

يرى الوزير اللبناني السابق شربل نحاس، وهو الإصلاحي المشاغب الذي شارك في غير حكومة لبنانية وخرج من آخرها مستقيلًا، أن مسألة إعادة إنتاج هوية وسط مدينة بيروت، أبسط مما تبدو عليه. فـ «مجلس الإنماء والإعمار» الذي يملك صلاحيات استثنائية، قادر بإجراءات إدارية بحتة أن يغير واقع الحال. وثمة قضايا لا تحتاج، نظريًا، إلى أكثر من قرارٍ بلدي ليُعاد رسم وجه العاصمة، أو يعدَّل منه بعض الشيء. من بين ذلك مثلًا استرداد الأملاك العامة في الوسط التجاري، وهي القضية التي حاذر الجميع طرحها لدخولها في باب التابوهات السياسية في البلاد. ومن بينها كذلك تركيب خط نقلٍ عام مثلًا (ترامواي) يصل إلى قلب العاصمة، مع ما يعنيه ذلك من إعادة تشكيل هويتها وإخراجها من الموات الذي هي فيه. ومن ذلك أيضًا جعل القصر الحكومي الشاسع، الخالي تمامًا إلا من بضعة وزراء وموظفين خلال بعض أيام السنة، مقرًّا لأنشطة إبداعية، كما كان الأمر عليه قبل تسليم أمر العاصمة إلى شركة «سوليدير» العقارية…

بيد أن الأزمة في حقيقتها، كما يضيف نحاس ويدركها أي متابع حصيف، سياسية أولًا وقبل كل شيء، وهي تتصل بواقع المحاصصة السياسية في البلاد، واعتبار المس بـ «سوليدير» من المحرمات. ويمكن الزعم أن أحد أسباب عدم اجتراح بدائل، تعيد إنتاج شكل مغايرٍ لبيروت، يتصلّ برغبة كل معسكرٍ سياسي في توظيف الثابت والمتغير في المسألة لمصلحته. فإذا ما تم التراجع عما تمثّله شركة «سوليدير» العقارية، تم تصوير ذلك على أنه نصرٌ مبينٌ لخصوم الحريرية السياسية. وأين؟ في وسط العاصمة حيث ضريح رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري. أما إذا ثُبِّت الأمر على حاله، فذاك معناه الإبقاء على توازن الريع السياسي بين العباد، وأن خصوم الحريرية السياسية التزموا بما تفرضه خطوطٌ حمرٌ تتشابك في تعريفها اعتباراتٌ سياسية وطائفية عويصة. علمًا أن ما يُغفل في العادة، هو أن الوسط على حاله نتيجة سياسات إنمائية كان لجميع المشاركين في حكومات ما بعد الطائف دورٌ في التصديق عليها.

قد يكون المدخل إلى إعادة النظر بالسياسات التنموية الخاصة بوسط بيروت، واستطرادًا

بسائر أرجاء العاصمة، متمثلًا بإخراج القضية من منطق تسجيل النقاط، وباعتبارها مسألة حيوية يمكن للمدينة عبرها أن تساهم في نفخ روحٍ في مشهد السواد المحيط.

ماذا لو كان وسطُ المدينةِ مساحةً مفتوحةً، ولو أن بعض الأبنية الشاغرة أو الفارغة إلا من قيمتها السوقية المتذبذبة وأسماء محالها الفارهة، ومتاحًا لإنتاجٍ معرفي أو إبداعي يعوّض سنوات الاهتزاز وغياب الجدوى؟ ماذا لو تقلص حجم القناع الكبير، الذي تختفي معه ملامح المدينة شيئًا فشيئًا، وتضيق مساحاتها حدّ الاختناق، لتقفِل على الإنتاج الثقافي واحتمالات اجتراحه مساراتٍ بديلةً؟ وماذا لو تم التعامل مع بيروت على أنها الأقدر في المشرق العربي، نتيجة الظروف المحيطة بها تحديدًا، على تشكيل مساحة للتفاعل بين مثقفي المنطقة، للتداول في احتمالات مستقبلٍ مدني لائق بها… بعد أن ينهض جرحاها من بين الركام؟