أذكر في بدايات مرحلة ما بعد الحروب الأهلية اللبنانية٬ وحروب الآخرين على أرض لبنان٬ غلافاً لمجلة «العربي»٬ عن بيروت٬ بعنوان «هكذا تموت المدن٬ وهكذا تحيا».
كان العدد احتفالاً بعودة بيروت٬ من موقع المجلة الليبرالي٬ وخلال تولي الزميل والصديق د. محمد الرميحي رئاسة تحريرها. احتفال ببيروت التاريخية كدور ومحطة ومختبر٬ أو أقله٬ احتفال بصورة بيروت هذه والرهان على ولادتها مرة أخرى.
ما زلت معجباً بالعنوان إلى اليوم٬ وأستخدمه كعدسة أراقب من خلالها المدن٬ موتاً وحياة. ماتت بيروت مراراً. ونهضت. قتلت مراراً. ونهضت. وفي كل مرة كانت تنهض٬ كانت تنهض بوصفها محاولة لتكرار طليعيتها وتقدميتها من بوابة الثقافة والعمران. هكذا تموت بيروت وهكذا تحيا. وهي اليوم في طور جديد من أطوار الموت الذي من علامات شيوع سطوته٬ ازدهار الرقابة وثقافة المنع وذهنية التحريم.
جديد المنع في بيروت٬ كتاب «Deus Homo «لأستاذ التاريخ في الجامعة العبرية في القدس٬ يوفال نوح هراري. أما سبب المنع فهو أن الكاتب إسرائيلي! الكتاب هو الجزء الثاني من مشروع مثير لهراري٬ بعد كتاب «Sapiens .«في الأول عرض هراري لتاريخ تسييد الجنس البشري وارتقاء الإنسان سلم الأنواع. تاريخ موجز لرحلة العقل البشري٬ والمعرفة والحضارة. في كتابه الثاني يعرض هراري لوصول العقل البشري إلى مفصل مصيري في رحلته٬ بسبب تحدي التكنولوجيا٬ واحتمال تفوقها٬ بل إمكانية تحكمها بالعقل البشري٬ دعك عن ولادة طبقة جديدة من «التكنو بشر» التي يتوقع لها أن تُخضع الإنسان الراهن إلى تجربة الترويض التي مارسها الإنسان الراهن بحق الحيوان!
هراري لا يتحدث عن خيال علمي٬ بل عن تجربة بادئة في الهندسة الجينية٬ وهندسة الأدمغة٬ والذكاء الاصطناعي٬ وهيمنة الخوارزميات على أطر معقدة لتنظيم النشاط والاجتماع البشريين. التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية العميقة لذلك لا تقل عن إزاحة مئات ملايين البشر من دورة الإنتاج والاستهلاك٬ وتحويلهم إلى كتل يسميها هراري«الطبقة عديمة الفائدة». يكفي مثلاً التنبه إلى أن الخوارزميات التي تعتمدها شركة «أوبر» قادرة٬ من دون تدخل بشري٬ على إدارة وتنسيق حركة ملايين السائقين حول العالم!!
كتاب هراري الأول تُرجم إلى نحو أربعين لغة حول العالم٬ وحمل صاحبه إلى ندوات مؤتمر «تيد» العالمية. قال عنه مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس إنه واحد من عشرة كتب يأخذها معه إذا قرر العيش على جزيرة معزولة٬ وأدرجه صاحب موقع فيسبوك مارك زوكربيرغ ضمن لائحة نادي الكتب الإلكتروني الخاص به.
واقعة الكتاب ومنعه هي قصة مدينتين. تطبع القدس كتاباً من هذا النوع٬ وتمنع بيروت قراءته. به تنسج القدس صلاتها بالعالم بل بنخبة نخبته٬ وبمنعه تقطع بيروت صلاتها مع العالم ونخبة نخبته٬ بحجة الصراع وشروطه وموجباته. هل يقول هذا شيئا عن تهافت فكرة الصراع مع إسرائيل٬ أو على وجه أدق وأعدل٬ تهافت القوى التي تصارع٬ وتهافت عقلها٬ بما أننا إزاء كتابين عن العقل؟ كيف يتعامل هذا العقل مع فكرة المعرفة نفسها من منظور صراعي هوياتي؟!
في جعبة إسرائيل بين الأعوام 1966 و٬2011 12 جائزة نوبل ست منها حازها علماء كيمياء إسرائيليون. قبل نحو سنتين توصل فريق علماء يعملون في مختبر العالم الإسرائيلي الحائز جائزة نوبل أهارون تشيخانوفير٬ إلى تحديد بروتينين مسؤولين عن مكافحة الأنسجة السرطانية والتحكم في نمو وتطور الخلايا٬ في سبق علمي جبار.
بموجب العقل الصراعي الذي منع كتاب هراري٬ ينبغي على الصراعيين أن لا يستفيدوا من هذا الخرق الطبي٬ وأن يمتنعوا عن تناول أي علاجات منبثقة عنه بسبب إسرائيلية صاحب الإنجاز٬ فيكون بذلك «الموت بكرامة» أفضل من «رجس» التلاقح المعرفي مع العدو!!
لا فرق بين كتاب ينتجه مؤرخ أو فيلسوف إسرائيلي وعلاج يكتشفه عالم إسرائيلي. ينبغي للمنع أن يطال الاثنين. منع الكتاب والامتناع عن العلاج٬ حرصاً على شروط الصراع مع العدو. فالمصافحة اعتراف. والكتاب٬ والعلاج٬ وكل ما عدا ذلك.
وفق هذا المنطق قامت الدنيا ولم تقعد لأن الروائي اللبناني إلياس خوري أعطى قبل ثلاث سنوات مقابلة هاتفية لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في مناسبة صدور الطبعة لعبرية من روايته «الوجوه البيضاء»٬ وحصل الشيء نفسه مع الروائي أمين معلوف العام الفائت بسبب مقابلة مع محطة إسرائيلية.
وإسرائيل هذه التي يناطحها العقل المقاوم٬ لا تني تقدم المفارقة تلو الأخرى في علاقتنا معها وعلاقتها معنا.
هكذا تحيا المدن. تحيا بأن تكون جزءاً مما يدور في العالم٬ جزءاً من عقل العالم ورحلته. وهكذا تموت. تموت حين لا تقوى على استيعاب كتاب بسبب جنسية كاتبه.