من غير المؤكد ان مفاجأة جديدة ـ وربما صادمة ـ لن تبصر النور في انتخابات جبل لبنان غدا الاحد، وخصوصا في جونيه، تشبه انتخابات بلدية بيروت بدروسها ودلالاتها، شأن دروس انتخابات بلدية زحلة ودلالاتها
ثمة قواسم تشترك الى حد المدن الثلاث فيها: في بيروت واجهت الاحزاب لائحة عائلة المجتمع المدني فربحت الارقام وخسرت السمعة والمكانة. الحال نفسها في زحلة. خسرت العائلات الارقام وربحت وجودها كي تثبت مرة اضافية انها مدينة تصلح للعائلات اكثر منها الاحزاب.
ما تنتظره جونيه لن يختلف كثيراً. صنع لها الرئيس فؤاد شهاب كل شيء تقريباً، فأنكرته: نقل قصر الرئاسة من القنطاري الى صربا كي يقول لموارنة كسروان انهم العاصمة. اقام فيها ثكنة عسكرية نادرة خارج المدن الكبرى. اوجد المرفأ نافذة على الخارج، وربط القضاء بالمتن عبر الجبال كي لا ينقطع التواصل. كل ذلك ابقى شهاب ما راح يردده على الدوام: مهما فعلت انا فؤاد بن عبدالله بن حسن شهاب.
تشبه انتخابات جونيه المدينة نفسها. تريد ولا تريد في الوقت نفسه: لائحة عائلات ثلاث هي البون وافرام والخازن زائداً حزباً واحداً هو القوات اللبنانية في مواجهة لائحة احزاب ثلاثة هي الكتائب والتيار الوطني الحر والوطنيين الاحرار زائداً عائلة واحدة هي حبيش. على نحو كهذا تختبر الاحزاب الرئيسية الثلاثة معركة وجود سياسي في جونيه يختبىء وراء لحاف بلدي، من دون ان تتيقن تماماً ان منافستها العائلات ترجح لها الكفة. بل ما تشير اليه اللائحتان ان كلا من الاحزاب تحول بدوره عائلة اضافية في لعبة الصراع على المجلس البلدي، اذ تجد الاحزاب هذه نفسها محوطة ببيوت سياسية مستقلة، في الظاهر على الاقل، تمتلك حيثية محلية تجعلها قادرة على فرض شروطها.
لعل ما يصح في جونيه ــــ وقبلا في زحلة ــــ لم يكن كذلك في بيروت. اصحاب البيت ليسوا اصحاب القرار. وقد يكون الدرس الاساسي الذي استقته العاصمة من انتخابات بلديتها ان جونيه تجري انتخابات مجلس بلديتها على ارضها، عائلاتها مقيمة فيها. كذلك فعلت العائلات الخاسرة في زحلة. وقد لا تنتهي انتخابات جونيه بطريقة مشابهة لانتخابات بيروت حينما عاقب المقترعون والمجتمع المدني تحديدا لائحة ائتلاف الاحزاب، لا سيما منها المسيحية التي ربحت المقاعد، من دون ان تكون متيقنة من انها كسبت فعلا اصوات المقترعين. في جونيه تقترع عائلات ضد عائلات، واحزاب ضد احزاب. في حصيلة الامر تفوز الاحزاب بأصوات العائلات ليس الا.
في جونيه تقترع عائلات ضد عائلات، واحزاب ضد احزاب
على ان اقتراع عائلة المجتمع المدني في بيروت اعطى دلالات مختلفة جديرة بالمراجعة، السياسية اولا واخيرا:
اولاها، طبع الاعتراض التصويت المسيحي في بيروت، فأحاله اقتراعا اقرب ما يكون الى الاحتجاج. لم يقتصر على شطب مرشحي الرئيس سعد الحريري فحسب، بل تناول كذلك مرشحي الاحزاب المسيحية التي ائتلفت معه في اللائحة على نحو غير متوقع، بل استثنائي في العلاقة التي تتسم بها علاقات افرقائها: بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، وتيار المستقبل والقوات اللبنانية. لم يعدُ الائتلاف كونه تعويضاً تعذّر استخدام المال السياسي لافتقار الجيوب اليه. ما خلا ذلك لم يكن ليتصور احد ائتلافات كهذه، في حمأة نزاعات سياسية اكثر من ان تحصى بين هؤلاء جميعاً.
ثانيتها، لأن الاقتراع الاعتراضي طاول الاحزاب المسيحية اساساً، شُطب مرشحوها في اللائحة. بذلك ساوى المقترعون مرشحي الحريري بمرشحي الاحزاب المسيحية. ما خلا هذه الذريعة، كان في الامكان الاكتفاء بشطب مرشحي الزعيم السنّي وتبني المرشحين الـ12 المسيحيين الآخرين زائداً نصف لائحة «بيروت مدينتي». لم يحصل ذلك، فإذا الفارق بين الرابح الاخير في «لائحة البيارتة» والخاسر الاول في لائحة «بيروت مدينتي» سبعة آلاف صوت فقط، كفيلة بأن تعني ان قسماً مهماً من التصويت السنّي ومعظم التصويت المسيحي ذهب الى مكان آخر.
قد لا يكون الحريري استعجل رد فعله السلبي حيال الاصوات التي منحه اياها حلفاؤه المسيحيون. ما حصل ان حلفاءه كانوا بلا قواعد تقريباً. لم تعد تريد الحريري ولا حلفاءه حتى.
ثالثتها، ليس قليلا التمعن في ظاهرة ان بيروت المسيحية، او المارونية، ليست مقيمة في بيروت. لا قرار مسيحياً او مارونياً سياسياً في بيروت اذا كان لا بد من القول ان صالوني مطرانيتي الموارنة والروم الارثوذكس لا يجعلهما مرجعية سياسية في المدينة. وقد يُعزى انكفاء التصويت المسيحي للاحزاب المارونية الثلاثة وحليفها السنّي خصوصا، الى هذه الحجة بالذات: قرار التيار الوطني الحر في الرابية، وقرار القوات اللبنانية في معراب، وقرار حزب الكتائب في بكفيا. لم يعد اي من الزعماء الموارنة والمسيحيين خصوصاً يقيم في العاصمة على نحو ما شهدته عقوداً: الرئيس كميل شمعون في الاشرفية وكذلك الرئيس بشير الجميل لم يبرحاها في عزّ الحرب السورية عليها حتى، بيار الجميل في حيّ اليسوعية، ريمون إده في الصنائع، هنري فرعون في زقاق البلاط، فؤاد بطرس في الاشرفية، حميد فرنجيه في بدارو، الرئيس سليمان فرنجيه في حيّ البطريركية ومنه خرج ترشحه لرئاسة 1970، ناهيك ببيوت بيار إده وغسان تويني وميشال ساسين. معظم هؤلاء ريفيون قطنوا في العاصمة قبل ان تشعر بأن خلفاءهم في احزابهم وطائفتهم حملوا معهم قرارها الى الارياف القريبة او البعيدة. فإذا بيروت بلا قاعدة قرار مسيحي، وبدرجة اولى ماروني.
ليست ازمات النفايات والفساد والكهرباء ونهب القطاعات والخدمات المتردية واحتلال الشاطىء وكابلات الانترنت غير الشرعي وحدها حجبت الصوت المسيحي، كما الصوت السنّي. ثمة اسباب وجيهة في كل من الطائفتين.