أيّاً كان السبب الذي أوقع الانفجار الزلزال الذي دمّر بيروت ومرفأها وجعلها مدينة منكوبة، فإنّ الفساد، إلّا في حال ثبوت العكس، كان وسيبقى الأصل في هذه الكارثة وكل ما سبقها من الكوارث التي أدمَت قلوب اللبنانيين، وزادت في اقتصادهم وحياتهم المعيشية دماراً، وجعلتهم حيارى تائهين في بحر الأزمات وأمواجه المتلاطمة.
بهذا الانفجار يفترض ان يكون الكَيل قد طفح والسيل قد بلغ الذبى مع هذه المنظومة السياسية الفاسدة التي نهبت خيرات البلد ومقدرات أبنائه على مدى عشرات السنين، لتحين معه ساعة الحساب التي باتت آتية لا ريب فيها، لكن في ظل سؤال على يد مَن سيكون هذا الحساب في غياب السلطة القادرة على المحاسبة والمسلوبة الارادة؟ على يد تلك المنظومة المعشّشة فيها وتتحكّم بقراراتها وتأكل خيرات الدولة ومالها بواسطة الازلام والمحاسيب؟
والفساد، في رأي كثيرين، هو الذي أبقى 2700 طن من نيترات الأمونيوم وسط مرفأ يشكّل موقع القلب من الوطن بل صمّام قلب الوطن بيروت، هذا الفساد ما كان ليكون لولا أنّ المنظومة السياسية فاسدة في الأصل والفصل، والتي امتهنَت خدمة المصالح الشخصية وقدّمتها على مصالح البلد وأبنائه، بدليل انّ ما من أحد دخل السلطة، إلّا قلّة، حتى بدأ يعوم على المال ويعلو ويعلو بلا حسيب او رقيب، وعندما يسأل من اين لك هذا؟ ينبش القبور ليتحدث عن ميراث غير موجود لا في كتاب العائلة ولا في جغرافيا البلد.
ولأنّ البقرة الحلوب التي هي الدولة قد جَف ضرعها، بدأ المتعطشون الى حليبها ينكشفون شيئاً فشيئاً، وبدأت موبقاتهم تنكشف في ظل ادارة يتآكلها الفساد وقضاء إمّا مغلوب على أمره وإمّا متورّط في الفساد وإمّا متقاعس عن أداء المهمة، ويخشى ان تكون كل هذه الاحتمالات قد تجمّعت في الزلزال الكارثة الذي ضرب بيروت بانفجار نيترات الأمونيوم الخطيرة والمهملة وسط مدينة تعوّدت أن تكون عامرة بالحياة على مرّ العصور.
والمسؤولية في كشف كل ملابسات جريمة هذا الزلزال يفترض ان تكون جدية وحاسمة هذه المرة، فما بعد هذا الزلزال لن يكون كما قبله، على حد قول الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون خلال جولته في المرفأ المدمر، فناك أكثر من 170 إنساناً بريئاً فقدوا حياتهم والى جانبهم نحو 5000 جريح قد يتحوّل كثير منهم الى معاقين، فهذه الجريمة لن تمر في رأي المتابعين بلا عقاب لكل المتسبّبين إهمالاً او عمداً او بغير عمد، فهي لا تعالج بهروب الى الامام عبر الذهاب الى إحداث قلاقل سياسية وما يمكن ان يستتبعها من مضاعفات وردود أفعال من شأنها ان تحجب الانظار عن الزلزال بكلّ ما ألحقه من خسائر وما يتركه من ارتدادات، فاستقالة هذا او ذاك من النيابة او من الحكومة او من اي موقع مسؤول بعد هذه الجريمة لا يمكن أن تُعدّ إلّا هروباً من تَحمّل المسؤولية، إن لم نقل من دفع الحساب. الانتخابات النيابية يلجأ اليها في الأنظمة والدول المأزومة عندما تصل معالجة الازمات فيها الى طرق مسدودة، بحيث ينتج منها سلطات جديدة تتولى مسؤولية معالجة هذه الازمات. وفي حال لبنان هذه الانتخابات مطلوبة، وكان من المفترض ان تأتي طبيعية مع بداية الانهيار الاقتصادي والمالي، أمّا الدعوة اليها اليوم في ضوء كارثة تدمير بيروت فإنها تظهر كل من يدعو إليها كأنه يحاول الهروب الى الامام.
في أي حال تبقى الانتخابات المبكرة خياراً لا بد من الشروع فيه طالما انّ الازمة ما تزال مستعصية على الحل، وطالما انّ السلطة الحالية لا تزال قاصرة عن إنتاج الحلول كسابقاتها، لكن لا ينبغي أن ياتي هذا الخيار على حساب كشف الحقائق وتحمّل المسؤولية في جريمة تدمير بيروت، فهذا الحساب مع المنظومة الفاسدة كان ولا يزال ينتظر بروز القوة القاهرة القادرة على كشف ملفاتهم بقوة لا تقاوم.
على انّ الطامة الكبرى، في رأي المتابعين، هو عجز الحكومة عن البدء في إجراء الاصلاحات التي طلبها المجتمع الدولي والمؤسسات المالية الدولية والدول المانحة مقدّمة لتقديم الدعم المطلوب لإنقاذ لبنان من الانهيار، فهذا التأخير يُثير الاستغراب والشك حول خلفيات مُعطّلي هذه الاصلاحات، ليكون الجواب من مرجع ديبلوماسي انّ الفاسدين هم المعطّلون، لأنّ دخول المجتمع الدولي على خط هذه الاصلاحات سيكشف فسادهم المتمادي عبر السنين، والحال نفسه يحصل الآن مع كارثة المرفأ حيث رفض البعض عرض ماكرون إرسال محققين فرنسيين لمساعدة السلطات اللبنانية في التحقيق الذي تجريه لكشف ملابسات هذه الكارثة والمسؤولين عنها. فالفاسدون يخافون من دخول أي جهة خارجية في ملفات الفساد لأنّ هذه الجهة ليست محلية لكي تتصرّف على الطريقة اللبنانية وتخفي ما تتوصّل إليه من حقائق.
وعلى رغم هول الكارثة وما خلّفته من فواجع ودمار، لا يتردد البعض في ترداد مقولة «رُبّ ضارة نافعة»، متوسّماً أن يكون ما حصل بداية انهيار أحجار لعبة الدومينو وانكشاف أركان امبراطورية الفساد بكل أساطيلها وأزلامها، وان يكون لبيروت مرفأ عصري متطور على الشاطىء الشرقي للبحر المتوسط…