Site icon IMLebanon

عندما تتقبّل السلطة التعازي بنفسها…

 

بالرغم من هول الفاجعة بعد كارثة انفجار العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، ثمّة من تأخذه الهلوسة إلى رفع شعار أن الإنفجار فكّ الحصار. لماذا؟ لأنّ العالم كلّه “هرع” إلى قصر بعبدا، ليقف على خاطر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. وكأنّ القصر تحوّل محور استقطاب ونقطة جذب، على أساس أنّه مركز القرار، وأنّه يبقى الرمز، وعند باب مكتبه يقف العالم مُنتظراً موعداً منه. ولكنّ الواقع ليس كذلك.

 

علِم الرئيس أنّ هناك 2750 طنّاً من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت في العنبر رقم 12، ولكنّه قال إنّه لا يملك أيّ سلطة لعمل أيّ شيء. قبل أن يحصل الإنفجار مساء الرابع من آب، ويكشف حجم الكارثة على كلّ المستويات، كانت السلطة، حكومة ورئاسة ومجلس نواب، تُعاني من اشتداد الحصار الأميركي على “حزب الله” ومن تطبيقات قانون قيصر على النظام السوري، وكان الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله يدعو إلى عدم الإكتراث بكلّ ذلك والإتّجاه نحو الشرق. لم يقضِ الإنفجار الرهيب على أكثر من 175 شهيداً، ولم يُدمّر أحياء بكاملها فقط، بل قضى على السلطة بكلّ ما فيها. هي ليست كأنّها غير موجودة فقط، إنّما كأنّها ماتت ولا تفعل إلّا أن تتقبّل التعازي بنفسها.

 

لا حياة لمن تُنادي

 

لم تسقط الحكومة في مجلس النواب. خاف رئيسها حسّان دياب من التضحية به وإقالته، فأعلن الإستقالة. في الغالب، لم يعد مجلس النواب أيضاً محلّ ثقة لكي يطرح الثقة بالحكومة، لأنّه بعد الإنفجار وتجدّد الحراك الشعبي فقد الكثير من فاعليته. الجلسة التي عقدها في الأونيسكو يوم 13 آب كانت للتذكير أنّه لا يزال حيّاً، وأنّه يحارب ضدّ أن يمتدّ السقوط إليه، بعدما تحدّث الرئيس نبيه بري عن مؤامرة استقالات من المجلس من أجل الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة باتت اليوم أكثر من واجبة.

 

الحكومة سقطت، المجلس النيابي مُهدّد بالسقوط، الرئاسة في العُزلة، العهد كلّه في المجهول. عندما أتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان بعد الإنفجار، تقصّد أن يبدأ جولته من المنطقة المنكوبة في الجمّيزة ومار مخايل. كان يوصل رسالة مباشرة تقول أنّه لم يعد يعترف بالشرعية التي تمثّلها المؤسسات إلا باعتبارها ممرّاً إجبارياً، وأنّه يعطي الشرعية للشارع الذي رفع مطالبه منذ ثورة 17 تشرين. وعندما أتى مساعد وزير الخارجية الأميركية دايفد هيل بدأ أيضاً جولته من المنطقة المنكوبة نفسها، واعتبر أيضاً أنّه يعترف بالشرعية الشعبية، ولذلك هو هنا، مُعلناً عدم ثقته بالسلطة اللبنانية ومُلتزماً عدم تقديم المساعدات عبرها. هو لم يكن الأوّل، قبله كانت كل الدول التي أرسلت مساعدات تقنية وعينية تُعلن أنّها لا تريد أن تكون عملياتها مُنسّقة مع السلطة، بل مع مؤسسات المجتمع المدني. حتى مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية جون بارسا لم يشذّ عن القاعدة، وعد بأنّ لا مساعدات عبر الدولة، وأنّه لن يلتقي أي مسؤول فيها.

 

عندما ينزع العالم كلّه تقريباً ثقته عن السلطة، فماذا يبقى لهذه السلطة أن تفعل؟ ذلك أنّ شرعيّتها لا تقوم على أن تعترف هي بنفسها، بل على أن تكون مقبولة في العالم ومُعترفاً بها. لا يكفي أن تمتدّ سلطة الرئاسة على قصر بعبدا ولا أن تكون سلطة الحكومة في السراي حتى يُقال أن عندنا دولة وشرعية ومؤسّسات. لا يُزار الرئيس في قصر بعبدا إلا لأنّه يبقى حتى إشعار آخر هو الذي يشغل هذا القصر ورمز الجمهورية. هذه الإستقبالات ليست فكّاً للحصار ولا استعادة لقوة موقع الرئاسة ولا اعترافاً مُتأخّراً من العالم بوجود الرئيس، ذلك أنّ كلام هؤلاء الزوّار، قبل الزيارات وبعدها، يشبه إعلان عدم الإعتراف بما يُمثّله هذا الموقع. وبذلك، تصير هذه اللقاءات وكأنّها وقفة لتقديم التعازي عن روح هذه السلطة، وكأنّ هذه السلطة تتقبّل هذه التعازي بنفسها عن نفسها.

 

 

أعلم أو لا أعلم؟

 

عندما يصير موضوع الإنفجار الضخم مسألة “كنت أعرف أو لم أكن أعرف”، تكون السلطة قد أعلنت موتها. عندما يصير موضوع اكتشاف كمّيات نيترات الأمونيوم الهائلة في العنبر رقم 12 محلّ دعوة رئيس الحكومة المستقيلة حسّان دياب لزيارة المرفأ، والإعلان عن هذا الإكتشاف من أجل تفجير فضيحة تطال غيره أو من سبقه أو الذين يتّهمهم بعرقلة حكومته، تكون هذه السلطة تدفن نفسها. وعندما يعتذر دياب عن القيام بهذه المهمة الطارئة بحجّة أنّ النيترات مجرّد أسمدة كيماوية يكون إعلان الموت مضاعفاً. وعندما يتمّ الإختلاف على أن تكون هناك لجنة تحقيق دولية وعلى ألّا تكون، تكون السلطة ميتة. وعندما يتمدّد الخلاف ليطال تعيين محقّق عدلي محلي ليتابع التحقيقات، تكون السلطة غير جديرة بالحياة. في خضمّ استمرار عمليات البحث عن بقايا المفقودين، ثمّة من يريد أن يستثمر في التحقيق وفي الألم وفي مصائب الناس ووجعهم وفي دم الضحايا، وكأنّه لم يحصل أيّ انفجار ولم تقع أيّ كارثة، وكأنّ القصّة يجب أن تكون مجرّد إهمال وحريق غير مُتعمّد وشرارة تلحيم.تحقيق في الفوضى

 

التحقيق في ظاهره لبناني محلي، ولكنّه في الواقع صار دولياً. بهذا المعنى، يكون هناك إثبات على موت هذه السلطة. التحقيق لبناني في الشكل ولكنّه في المضمون سيكون دولياً. معظم أجهزة المخابرات في العالم دخلت على الخطّ، وهي تشارك على طريقتها في البحث عن الأدلّة، في غياب تامّ لأيّ مراقبة من هذه السلطة، كأنّهم يعتبرون أنّها غير موجودة فِعلاً. لو كان هناك توجيه باللجوء إلى التحقيق الدولي رسمياً لكانت الأمور مختلفة. التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري لم يكن مُتفلّتاً ومفتوحاً ومُباحاً إلى هذا الحدّ. كان تحت سلطة مجلس الأمن وتوصيات الأمين العام للأمم المتّحدة، وكان على تنسيق مع القضاء اللبناني. اليوم لا يوجد مثل هذا الأمر. العالم يريد أن يعرف أيضاً من أين أتت النيترات؟ ومن جلبها إلى لبنان؟ ومن استعملها؟ ومن أخذ كمّيات منها؟ وإلى أين ذهبت؟ وهل لـ”حزب الله” علاقة بالأمر؟ وهل كانت هناك عملية استهداف إسرائيلية أم أنّ التفجير كان حادثاً عرضياً؟ والعالم يعرف أنّ السلطة كما هي، لا يُمكن أن تُقدّم إجابات عن هذه الأسئلة.

 

لو طُبِّق القرار 1701…

 

لو طُبّق القرار1701 لما كان حصل انفجار العنبر رقم 12 ربّما. اليوم يكون مرّ 14 عاماً بالضبط على دخول هذا القرار حيّز التنفيذ، بعد شهر ويومين على بدء حرب تموز 2006. القرار كان يهدف إلى استعادة سلطة الدولة على كامل أراضيها وبالتالي على إنقاذ الجمهورية وإحياء السلطة، وعلى أن تطلب الحكومة دعم القوات الدولية بعد زيادة عديدها وتجهيزها لمساعدتها على بسط سيادتها حيث تطلب، وعلى ضبط المعابر البرّية والجوّية والبحرية. لو كان هذا القرار مُطبّقاً بالكامل لما كانت هذه المواد لتدخل إلى مرفأ بيروت ولتبقى فيه ولتنفجر. بعد أيام على صدور هذا القرار، كان الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله يخطب في مهرجان النصر، ويُطلق اتهامات الخيانة للحكومة ولقوى 14 آذار التي اعتبر أنّها شجّعت الحرب ضدّه وتآمرت عليه. وكأنّه منذ ذلك التاريخ كان قد بدأ مسار موت الدولة والسلطة. تم قتل السلطة عندما تم قطع الطرقات في كانون الأول 2006 وعندما تمّت محاصرة السراي الحكومي بعد ذلك، وعندما حصلت عملية 7 أيار 2008، وعندما تمّ تفاهم الدوحة، وعندما تمّ إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري ومنعت أكثرية مجلس نواب 2009 من أن تحكم، على عكس ما يحصل اليوم مع مجلس نواب 2018 بالرغم من أنّ نصرالله كان قال قبل تلك الإنتخابات فليحكم من ينل الأكثرية. وقتل السلطة حصل من خلال المشاركة في حرب سوريا واستباحة الحدود عبر المعابر غير الشرعية، ومن خلال تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، ومن خلال التحكّم بمفاصل الجمهورية وبتغطية رئيس الجمهورية و”التيار الوطني الحرّ”. لقد تأخّر الوقت كثيراً. لا يُمكن أن يستفيق الرئيس اليوم على أن هناك سلطة بعدما توفّاها الله، لا يُمكنه أن يستعيد في يوم واحد ما ساهم في ضياعه على مدى أعوام. المسألة تتعلّق بما طالب به البطريرك مار بشارة بطرس الراعي عندما ناشده فكّ الحصار عن الشرعية، ودعاه إلى التمسّك بإعلان حياد لبنان ومطالبة مجلس الأمن تطبيق القرارات الدولية المتعلّقة بلبنان. من دون ذلك، ستبقى الجمهورية في حالة حداد. وستبقى السلطة واقفة تتقبّل التعازي بنفسها، قبل أن تحمل نعشها وتمشي إلى مثواها الأخير.