الأحداث الكارثية الكبرى، كالتفجير المدمر الذي وقع في مرفأ بيروت، لا تحصل هكذا بالصدفة إلا نادراً، بل تأتي في سياق مخطط خبيث معدّ سلفاً ولتحقيق أهداف مرسومة جراءها، قد تظهر ماثلة للعيان في بعض الأحيان أو تحتاج لوقت طويل حتى يتم اكتشافها، فالانفجار الضخم، حدث كارثي بكل ما للكلمة من معنى، دمَّر أهم شريان حيوي واقتصادي في العاصمة ولبنان والمنطقة، وهدم آلاف المنازل وشرد سكانها وأصاب معالم المدينة ومؤسساتها ومعالمهما الاقتصادية والسياحية والدينية والتراثية بخراب لم يسبق ان تعرضوا له حتى في أحلك أيام الحرب الأهلية المشؤومة، أو خلال سلسلة الاجتياحات الإسرائيلية والمليشيوية الحاقدة التي استهدفت العاصمة خلال العقود الخمسة الماضية.
فمنذ وقوع الانفجار، روّجت سيناريوهات وحيكت روايات عديدة وبثت صور عبر وسائل الإعلام، وكلها تذهب باعتبار التفجير وكأنه حادث ظرفي صرف مرده إلى الإهمال الإداري أو على الأقل بفعل اعتداء إسرائيلي بصاروخ استهدف مستودع تخزين كمية الامنيوم المتفجرة، فيما الهدف من كل هذه السيناريوهات الهزيلة، إضاعة الحقيقة وصرف مسؤولية الانفجار عن المرتكبين الأساسيين، ما زاد بالشكوك بأن ما حصل عمل مدبر وله ابعاد واهداف متعددة، لا سيما إذا أضيفت إلى الوقائع ظروف كيفية وصول السفينة الناقلة لهذه الكمية الضخمة من هذه المادة المتفجرة وتسلسل مصادرتها وتخزينها بالعنبر رقم 12 برغم خطورتها الشديدة طوال السنوات الماضية دون البت بأمرها، بما يظهر ان هناك أيدي خفيّة كانت تدير اللعبة من وراء الستارة للوصول إلى الوقت المحدد لتفجيرها.
فلا يمكن فصل هذا التفجير المدمر عن الصراع الإقليمي المحتدم بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل من جهة وإيران وحلفائها بالمنطقة وفي مقدمتهم حزب الله من جهة ثانية، ولا يمكن تجاهل تزامن توقيت هذا التفجير استحقاقات واحداث وإعادة رسم خارطة جغرافية وديموغرافية واقتصادية جديدة.
أوّل ما يتبادر إلى الأذهان بعد التدمير الهائل الذي أصاب مرفأ بيروت والجوار السكاني والعمراني وكل معالم المدينة، ربط ما حدث سابقاً، من جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي شكل ظاهرة فريدة ومميزة بالنهوض بلبنان وأعاده إلى خريطة المنطقة والعالم بحلة اقتصادية وديناميكية مشعّة، ومروراً بسلسلة احداث ووقائع كان آخرها محاولات دؤوبة من قبل الحكومة المستقيلة احداث تغييرات بنيوية لتحويل الاقتصاد اللبناني الحر إلى اقتصاد موجه كما حال الاقتصاد السوري والإيراني، وهو ما عبر عنه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بدعوته لتحويل وجهة الاقتصاد اللبناني شرقاً، أي إلى الدول التي تعتمد هذا النموذج الاقتصادي، النتائج الأوّلية للتفجير الكارثي تعطل مرفأ بيروت عن العمل، قتل وجرح الآلاف ومن ضمنهم من يشغل ويعمل بالمرفأ، فيما تمّ تدمير الدائرة الاقتصادية من شركات ووكالات ومهن صغيرة مرتبط عملها بحركة المرفأ، ناهيك عن تدمير وتخريب عشرات آلاف المنازل ولا سيما من أصحاب الدخل المحدود الذين يسكنون في محيط وقبالة هذا الميناء البحري العريق في لبنان والمنطقة.
فإذا تبين ان التفجير الكارثي هو عمل مخطط له عن سابق قصد وتصميم، وهذا لن يتبين بشكل قاطع في ظل الانقسام السياسي وانعدام أهلية الطاقم الحاكم من رأس الهرم حتى ادناه بالرغم من المحاولات الدؤوبة لبعض المخلصين في الطاقم القضائي للامساك بهذا الملف الحسّاس ومتابعته حتى النهاية بعد انكشاف ثغرات مفضوحة لا يمكن تجاهلها، فإن ما جرى لا يمكن فصله عن مخطط بعيد المدى لتغيير دور بيروت ولبنان عامة في المنظومة الاقتصادية التي يحضر لها مستقبلاً على مستوى المنطقة كلها، وتهميش دور مرفأ بيروت قياساً على ما هو عليه وتحوله لصالح مرافئ أخرى مجاورة تقع ضمن منظومة التحالفات المستحدثة ولا سيما منها مرفأ اللاذقية الذي تمّ توقيع عقد تشغيله واستثماره من قبل النظام السوري لصالح إيران على مدى خمسين عاماً.
لذلك، لا بدّ من التمعن بكل ما يحصل، لأن جرائم الاغتيال والتفجير الكارثية، تبدو مرتبطة ببعضها وضمن مخطط خبيث الا إذا بينت التحقيقات والادلة عكس هذه التخمينات والاستنتاجات، في حين تظهر النتائج على الأرض والتداعيات الخطيرة، تصديق سيناريو التفجير المتعمد والمحضر سلفاً لاحداث التغييرات الديمغرافية والاقتصادية والسعي لتبديل الأدوار الاقتصادية على مستوى المنطقة وافراغ مرتكزات النظام الاقتصادي اللبناني من مقوماته ومراكز قواه الأساسية لتحويله باتجاه النظام الاقتصادي الموجه وضمه قسراً الى دول مغايرة لهذا النظام.
ولكن برغم حدّة هذه المؤامرة والخطط الخبيثة المخبأة خلفها لتغيير دور لبنان الاقتصادي والمالي وإضعاف مقوماته ومرتكزاته النتيجة لصالح دول أخرى ومحاولة الحاقه قسراً بمنظومة وتحالفات دول الاقتصاد الموجه أو الانطواء في السياسات المعادية للدول العربية والغرب عموماً، فإن مسار الأحداث والتطورات بعد هذا التفجير المأساوي الذي يشهده لبنان بهذا الحجم والقوة التدميرية الهائلة التي أصابت معالم ومرافق ومؤسسات عريقة الصميم، لا بدّ من تسجيل جملة ردود فعل تستحق التقدير، وسيكون لها مفاعيل ملموسة وفارقة لمنع تنفيذ مفاعيل هذا التفجير والعمل بكل الطاقات لبلسمة جراح اللبنانيين وإعادة النهوض بالعاصمة بيروت ومرافقها الحيوية وتأهيل المرفأ من جديد ليعود إلى العمل لطاقته الكاملة في وقت قريب جداً وأهمها:
– الزيارة السريعة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان لإظهار الاهتمام الاستثنائي لفرنسا، ودعمها وتضامنها مع اللبنانيين وأهل بيروت وحماسها البالغ لنجدة المتضررين ووضع الخطط لإعادة ما تهدم في المرفأ.
– مسارعة سائر الدول الصديقة بالعالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ودول أوروبية للتضامن مع لبنان والوقوف الى جانبه وتقديم ما يلزم من دعم ومساعدات طبية ولوجستية وغذائية وغيرها..
– الاندفاع المصرية اللافتة بتسيير جسري جوي وبحري لمد لبنان بكل أنواع الدعم وتأكيد التضامن المصري التقليدي وبفعالية استثنائية بكل المساعدات الطبية والغذائية لتضميد جراح اللبنانيين وتمكينهم من إعادة النهوض والمحافظة على دوره لبنان الفريد في المنطقة والعالم.
– وقوف جميع الدول العربية من دون استثناء إلى جانب لبنان، بدءاً من الدول الخليجية ودول المغرب العربي الذين قدموا كل أنواع المساعدات الممكنة لاغاثة المتضررين وتضميد جراحهم وبرهنوا عن أصالة حقيقية في التضامن والوقوف إلى جانب اللبنانيين في المحن والأزمات والكوارث.
هذه الاحاطة الفرنسية والأميركية والدولية والعربية للبنان اللافتة بعد كارثة التفجير المأسوية، أظهرت بوضوح حرص هذه الدول على لبنان ورفضها كل المخططات الخبيثة للعبث بتركيبته الفريدة أو أي محاولة لتغيير نظامه ودوره الاقتصادي في المنطقة، وهذا عامل مهم لقطع الطريق وإفشال هذه المحاولات والخطط المرسومة في حين تبقى المسؤولية الأهم ملقاة على عاتق كل اللبنانيين لاستيعاب خطورة ما يخبئه هذا التفجير الكارثي لبلدهم، ويعملوا لملاقاة مساعدات الأشقاء والأصدقاء لتعطيل مفاعيل ما حصل، والتكاتف معاً لتجاوز تداعيات ما حصل والمباشرة بإعادة الاعمار.
ويبقى أن التفجير المدمر لبيروت والمتزامن بالتوقيت مع موعد صدور حكم المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حرَفَ الانتباه والاهتمام بتداعيات ومآسي هذه الجريمة الجديدة جزئياً، ولكنه لم يلغِِ مضمون الحكم في الكشف عمن ارتكب جريمة الاغتيال والجهات الداعمة له، ولن يلغي المفاعيل والإنعكاسات السلبية لهذه الجريمة الإرهابية على مرتكبيها.