Site icon IMLebanon

حين “لمْلَم” الشباب الدموع وهبّوا لنجدة بيروت

 

كما في الحرب كذلك في السلم

 

زمان، في مرحلة الحرب اللبنانية، بينما كان بعض المقاتلين يعبرون من جبهة الى اخرى للدفاع عن كل شبر في لبنان، اكتفى البعض بمشاهدتهم عن بعد، وهم يمضون يومهم على الشاطئ. وبينما كانت الجثث والأشلاء تحت الركام الذي ساد إثر زلزال الرابع من آب، قرر البعض احتساء كأس خمر في إحدى الحانات والاستماع الى الموسيقى… فهل هناك ناس يتعاطفون وناس “بلا دم”؟ ماذا يقول علم الإجتماع؟

لم يعش اللبنانيون اللحظات نفسها في الرابع من آب المشؤوم. فمن كان بعيداً عن العاصمة، لم يدرك ماذا حصل إلا من خلال وسائل الاعلام. في جبيل مثلاً، اقتصر المشهد في المنطقة على سماع صوت بعيد، ظنه البعض مجرد خرق لجدار الصوت، من دون ان يتوقف ابناء المنطقة عنده. وصودف حينها وجود صديقتي نوال، الممرضة في احد مستشفيات كسروان، في منزلي، وما إن سمعت بخبر الانفجار، حتّى غادرت من دون إستئذان مرددة: “كارثة… Disaster… كارثة”. هرولت الممرضة مسرعة الى الطوارئ، فتساءلنا عن سبب تحركها مسرعةً بهذا الشكل ما دام الانفجار في بيروت، اي يبعد عنا عشرات الكيلومترات. لم نكن نعلم بحجم الكارثة، وهذا كان حال الكثيرين ممن يسكنون خارج العاصمة. وكانت الصور والفيديوات التي انتشرت على وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي كفيلة بتحرك ابناء المنطقة، لجمع اي نوع من التبرعات، لارسالها الى اشخاص لا يعرفون حتى اسماءهم، لكنهم يعرفون تمام المعرفة أنهم يتشاركون وإياهم، في الشريان، في الصميم، نفس “الدم اللبناني”.

“هل وطننا غير وطنهم”؟

 

هذا المشهد يتكرر نفسه، منذ زمن الحرب اللبنانية حتى اليوم. فلحظات من عاش الحرب في بيروت تختلف كثيراً عمن كان يسمع عنها خارجها. يعود أمين، ابن جبيل بذكرياته “العادية” الى مرحلة الثمانينات، ويخبر أنّ مدينته كانت بعيدة نسبياً عن المعارك والمناوشات التي كانت تحصل في بيروت. يضيف: “تحول صوت القذائف المدفعية الثقيلة الى صوت روتيني نسمعه اثناء الذهاب الى المدرسة وأثناء سهراتنا في قرى القضاء. وكنا نرى المقاتلين يتنقلون من جبهة الى أخرى أثناء تسكعنا على الشاطئ، أو خلال التزلج في الجبال. وكنّا نطّلع على التطورات من خلال نشرات الاخبار المتلفزة مساءً أو عبر الإذاعات. وهذا لا يعني اننا لم نكن نتأثر عند اصابة احد من معارفنا، لكني شخصياً لم افكر بالانخراط في الحرب، فكنت اتابع دراستي، وليس من واجباتي أن أقاتل “هناك (في بيروت)، خارج منطقتي”.

 

الأجواء الوردية التي واكبت يوميات أمين في الثمانينات، لا تشبه نهائياً الجحيم الذي كان يعيشه غسان في السوديكو، حيث صوت القذائف أقوى ورائحة البارود والدم في كل مكان. يقول غسان “تغيب عني الذكريات الجميلة في هذه الفترة بالذات، ولعلّ اجمل ذكرى احملها معي، عندما كان يصطحبني جاري المقاتل الى المتاريس، في فترات الهدوء، لأجمع فراغات “الخرطوش” المتناثرة على الارض. وغير ذلك، لا أتذكر سوى ظلام الملجأ وأضواء الشموع ومصباح الكاز، وصراخ الامهات وبكاء الأطفال”.

 

في الحرب عاش البعض اللحظات نفسها بطعم مختلف. وفي الحرب ايضاً، يوجد من ترك منطقته التي تعيش بسلام وهب للدفاع عن منطقة اخرى في بلده، مثل بول ابن جونيه الذي اتجه الى الأسواق التجارية في بيروت ليعاون رفاقه في الدفاع عن مناطق بلده. يقول بول “منذ اللحظة الأولى شعرت اني معني بما يحدث في كل المناطق اللبنانية، وكنت اعلم أنّ اي انتكاسة في اي محور من المحاور آنذاك، ستؤثر علينا جميعاً. وطنيتي أجبرتني على الانخراط، وكنت اشمئز وأغضب، عند عبوري من جونيه الى بيروت، وأرى بعض جيراني واصدقائي يمضون يومهم على البحر، وكأن لبنان بألف خير، غير آبهين بما يحصل. وكنت أسأل نفسي باستمرار “هل وطننا غير وطنهم؟ كيف لا يعنيهم ما يجري رغم أنّ الخطر الوجودي كان شاملاً في تلك المرحلة؟”؟.

 

نخب بيروت

 

في حرب الفساد التي نعيشها اليوم، المشهد يعيد نفسه، رغم أن الكثيرين، خارج بيروت، لم يتأثروا مادياً من انفجار 4 آب، الا أن شيئاً ما قد تحطم في قلوبهم، فهرعوا الى بيروت للمساعدة، يقابلهم آخرون، لم يهز لهم جفن، فتقوقعوا في منازلهم، آملين ألا يتذوقوا مرارة هذه الكأس. المشاهد الإنسانية التي حصلت وما زالت تحصل في العاصمة بيروت، “بتكبر القلب”. آلاف اللبنانيين من نساء وأطفال ورجال من جميع المناطق اللبنانية حضروا الى بيروت لنفض الغبار عنها، ولملمة جروح بعضهم البعض.

 

تحركات الشباب العفوية، ترفع لها القبعة، فكل من لديه حس وطني وانساني هب الى المساعدة، فنرى مهندساً من كسروان وضع خدماته بتصرف من دمر منزله، وصاحب فندق في الشمال فتح فندقه لمن تشرد، وطبيباً من جبل لبنان وضع نفسه بتصرف من اصيبوا وهلمّ جرّ… فكيف يفسر علم الاجتماع هذه المشاهد؟ تجيب الباحثة في علم الاجتماع رانيا صوان: “نعيش في مجتمع يواجه التهديد الدائم في ظل غياب غالبية المؤسسات الحكومية والأمنية على أنواعها، منذ مرحلة الحرب الطويلة حتّى الآن. ويتمتع اللبنانيون بقيم مميزة مثل النخوة والمروءة والاندفاع فيهبون لمساعدة بعضهم البعض عند الشعور بأي خطر يهددهم. ولطالما كانت فكرة المواجهة، موجودة عند اللبنانيين، وهذا ما يفسر تخلي بعض الشباب عن كل شيء، ومبادرتهم فردياً أو جماعياً للدفاع عن منزلهم أو منطقتهم أو وطنهم. كذلك، إن الخطر المشترك أو الجماعي، يلعب دوراً اساسياً في تضامن الناس، فالانفجار مثلاً، أثّر على لاوعي كل فرد منا، وجعلنا نشعر اننا معنيون بغض النظر عن مكان سكننا، فالكل يدرك أنّ ما حصل في بيروت يمكن ان يتكرر في اي منطقة من لبنان. ونضيف الى ذلك، رمزية العاصمة، التي تعتبر ملجأ لكل انسان، حيث يتوافر فيها كل انواع الاحتياجات من مؤسسات وخدمات وغيرها. وكان انفجار 4 آب، بمثابة انفجار الملجأ الاساسي لكل المواطنين، وبالتالي ضرورة اعمار بيروت من جديد هدف اساسي للجميع”.

من جهة أخرى، اسباب عدّة تمنع الافراد والجماعات من التحرك والمشاركة، تشرحها صوان قائلةً “أحياناً، تمنع الصدمة البعض من تقدير الموقف، فيشعرون بعجزهم عن التحرك والمساعدة، كما أنّ غياب هيئة ادارة الكوارث، تعرقل نية البعض بالمساعدة، لعدم معرفتهم بالطريقة المناسبة لتقديمها. بالاضافة الى انانية البعض، وحبهم لذاتهم وعدم اكتراثهم لأي شيء آخر”. أمرٌ آخر تلفت إليه الباحثة في علم الإجتماع، خفت كثيراً عند البعض ولا يزال قائماً عند قلة وفيه “أن ثقافة الانشطار الطائفي والديني والايديولوجي والمناطقي تلعب دوراً اساسياً، عند البعض، في رفض تقديم اي مساعدة عمداً، من مبدأ محاولة التخلص وإلغاء الآخر بشتى أنواع الطرق”.

نتذكر هنا تلك الأقلام اللئيمة التي تم تناقل ما كتبت عبر التواصل الإجتماعي وفيها كثير من الحقد والتشفي “أن بيروت تستاهل ما حدث”! وتبقى أصوات الحقد أقل أما التضامن فأكبر وتجلى بأبهى حلله ودلّ أن لبنان ما زال بألف خير.

 

نور شابة عشرينية، أخذت من منزلها في جبيل “المكنسة والمجرود” وهبت لمساعدة أهلها في بيروت، حيث تداوم يومياً في مار مخايل. وكم استفزها سؤالها: لماذا اتيت من بعيد الى هنا؟ وجوابها كان: “كيف يمكنني الا اذهب؟”، مضيفةً “دموعي خلصت… وعم فش خلقي بالتنظيف” أضافت: “بيروت ليست فقط للسهر والفرح والمرح، فانا اعتدت على السهر في مار مخايل، واليوم استبدلت كأسي بمكنسة، وانا متأكدة أني سأعود لاحتسي كأساً جديداً فيها، وهذه المرة سيكون “نخب وطن أفضل”. أمّا ايلي، ابن شليفا (البقاع)، فيتساءل بسخرية شديدة، “وينيي الدولة؟ كل لبناني فينا، يجب ان يتحرك للمساعدة، فاذا لم نلملم جميعاً جروحات بيروت، فستبقى تحت الأنقاض، ولا سيما أنّ الدولة لم ترسل حتّى من ينظف ويعمل معنا”.