الغربان تحوم فوق رؤوس اللبنانيين
الغربان تحوم فوق الرؤوس، تغطّ ثم تطير، تصدر نعيقاً يشتدّ حيناً ثم لا يلبث أن يعود ويخفت حيناً آخر، لكنها تظل تحوم. نطردها، كما الذباب، فتعود. فهل يعدّ هذا إيذاناً بأننا ننزلق نحو الأسوأ؟ هل هناك من يضمر بالبلاد والعباد شراً؟ وهل هناك شرّ أشد بعد من جريمة الرابع من آب؟
نطلّ من الشرفة، فنلمح إمرأة تتحدث مع نفسها وتُكثر من حركات اليدين. بالأمس كانت “ست الستات” وعقلها “يزن بلداً” لكن تتالي الأحداث السود في عام واحد “طيّر عقلها”. نقصد السوبرماركت فنسمع مشادة قوية بين رجل، يُكثر من استخدام المرادفات الأجنبية، مع عمال الفرن. نسمعه يلومهم على جعل الناس تنتظر “بالصف” ليحصلوا على ربطة خبز بسعر 1250 ليرة بدل 2000 ليرة. “فهذا إذلال”. تُصادق إمرأة على كلامه، وتصرخ بدورها، فيتوتر الجميع. نعود الى منطقة متنية ذات أكثرية مسيحية، تضم بقعة ذات أكثرية شيعية، ونسمع عن تهديدات تُمارس عبر مكبرات الصوت، في زمن عاشوراء، عصر كل يوم “لمن يجرؤ على الكلام عن “سيد المقاومة”. الأهالي قلقون. كل شيء في البلد كأنه واقف “على صوص ونقطة”، قابل للتصدع في أي لحظة. فهل نحن على أبواب فتنة طائفية؟ هل نحن أمام حرب جديدة؟ ألا يشي الكلام عن عودة مجموعات تابعة لداعش بشرّ يتربص؟ هل يكذبون علينا، كما يفعلون دائماً، لإخافتنا؟ ألا تشي جريمة كفتون وحادث لوبية وأحداث الشريط الحدودي الجنوبي بشرورٍ داهمة؟ ألا يشي كل الكلام عن اغتيالات آتية، زاحفة، متوقعة، أننا عدنا الى المربع الأمني الخطر؟
حالة إنكار
سألت إحداهن “هل ما زالت أكياس الرمال قادرة على التصدي لأنواع الأسلحة الحديثة؟ هل ما زالت تنفع؟”. اول سؤال لم يلق جواباً. تُرى، هل كل هذه الأسئلة والأفكار التي تلوح في خاطر اللبنانيين هي صنيعة من يُمسكون رقاب الناس من أجل توظيفها في السياسة؟
كلود كنعان، الدكتورة في التاريخ وصاحبة كتاب: لبنان 1860- 1960 قرن من الأسطورة والسياسة، تقول: “لا يمكن لأحد أن يجيب. لا أحد يملك أجوبة”. وتستطرد: “القلق كبير، لكن الطرفين، اسرائيل و”حزب الله”، لا يريدان الحرب الآن. كلهم “مربوطون” إقليمياً وينتظرون الاشارات الخارجية. وضعونا في “دوامة” اللاحل ما دام لا حلّ إقليمياً. نحن قلقون، كل الناس قلقون، لأننا في دولة غير واعية، تعيش حالة إنكار تام لكل ما يحصل. نحن في مهب الريح”.
كلود كنعان، إبنة الكتلة الوطنية سابقاً، كتبت عن مرحلة زمنية بين عامي 1860 و1960 وعنونتها “قرن من الأسطورة والسياسة”، فماذا لو طلب منها اليوم عنوان لمرحلة بين عامي 1960 و2020؟ تجيب: “هل استطعنا بناء وطن؟”. تستطرد: “أنا آتية من مدرسة ريمون اده. وكل المحطات التي مررنا بها تؤكد أننا فشلنا في بناء ثقافة وطنية. ريمون اده هو السياسي الوحيد، في زمانه، الذي حكى عن الخطر الذي يحوط جنوب لبنان وما يدور بين الاسرائيلي والفلسطيني هناك، لذلك طالب يومها، في السبعينات، بحياد لبنان وبالعسكر الأممي لأنه رأى يومها ان معاناة الشعب الجنوبي ستتسبب بمشكلة. حصل هذا في حين كان اركان الدولة يسبحون في السان جورج. واليوم، لا يجوز ادارة الأذن الطرشاء مجدداً للدعوات الى الحياد”.
كنعان، التي كتبت عن السياسة والأسطورة، راقبت الحراك الفرنسي الحالي في لبنان وقالت: “أجريت مقاربة حول تأثير الأساطير على الذهنية السياسية. اللبنانيون يعتبرون أن فرنسا “الأم الحنون” و”أنها جزء منهم وهم جزء منها”، علماً أنني حين عدت الى العام 1860، وتوغلت في أحداث التاريخ، تبين لي ان المسيحيين في لبنان خسروا 125 ألف مسيحي في العام 1860 قبل ان تقرر فرنسا التدخل. هي أعطت يومها أولوية لمصالحها مع الدولة العثمانية على مصير المسيحيين. لذا، فلنراقب “وجهة المصالح” قبل ان نضع ايدينا في المياه الباردة. هذا لا يعني طبعاً ان مشاعر الرئيس ايمانويل ماكرون ليست حقيقية تجاه لبنان، لكن المصالح تظل اقوى. وتستطرد هنا بالقول: “لا شك بوجود “تبادل عاطفي” بين اللبنانيين والفرنسيين بدليل ان سائق الأجرة في باريس قادر ان يتكلم عن لبنان إذا سُئل”.
فلتحيا فرنسا. لكن لفرنسا مصالحها ايضاً. وهناك من ينشطون اليوم بحثاً عن “بؤر” يوظفونها في السياسة. فها قد عادت داعش وها قد عادت التوترات الأمنية وها قد عاد الكلام عن إغتيالات، وها قد عادت الأصوات تنذر بأن من يجرؤ ويقترب من سلاح المقاومة سيُرمى بصفة العمالة وها أن كل شيء، كل كل شيء، يبدو أسود قاتماً في عيون اللبنانيين… فهل علينا ان نخاف؟
فلنسأل العميد المتقاعد نزار عبد القادر؟ هو تناول الغداء للتوّ ويستريح بعدما كتب: “يُخشى ان يؤدي ارتفاع منسوب الانقسام الداخلي والضغط الخارجي الى خيارات يمكن ان تدفع في اتجاه تكرار عملية 7 أيار والانزلاق نحو فتنة داخلية”. رأي يجعلنا نسأل مجدداً: هل علينا بالفعل ان نقلق؟
مراقب للأحداث يتذكر أن “التوظيف الأمني كان دائماً يُستخدم في السياسة قبيل الأزمات اللبنانية، فهذا ما حصل قبيل حرب تموز، وعاد وحصل قبيل السابع من أيار، وعاد وحصل في مشهدية القمصان السود في 2011 وقبيل اغتيال محمد شطح. ثمة أحداث تفتعل في سبيل دفع البلاد الى الإقرار بخريطة سياسية محددة. إنهم يوظفون الأمن في السياسة، وإذا فشلوا فيكفي رمي عود كبريت لإخافة من لم يخف بعد”.
نحن في مرحلة يُحاول فيها من يعتبرون أنفسهم “الأقوياء” شراء الوقت، وفي هذه المرحلة لا يخشى الأفرقاء الآخرون من حرب بقدر ما يخشون من اغتيال ما. لهذا عاد الكلام عن الاغتيالات. وهذه المرة، في حال حصول اغتيال ما، فقد تفلت الامور نهائياً لأن لبنان في 2020 غير لبنان في 2005. اليوم، الدولة في حالة “انحلال” تام والغليان هائل والأزمة المالية والاقتصادية اشد من قدرة اللبناني على الاحتمال. الوضع كارثي والناس الذين رأوا الموت، أو موت أحباب، ما عادوا يسألون عن شيء.
لكن هل الحرب ستكون بالمدفع والـ”آربي جي” والـ”إم سكستين” والـ”كاتيوشا” وتسميات من زمان ماض؟ ستكون الحرب، اذا حصلت، “فوضى وتفلتاً من كل الضوابط. وحينها ستعود الطوائف الى “تسييج حدودها”. انها المأساة. فهل كثير أن نعمل اليوم، بما دعا إليه ذات يوم ريمون إده ويدعو إليه اليوم البطريرك بشارة الراعي، بالحياد؟ هل كثير أن نحمي حالنا ووطننا والعيش الواحد والمناطق المفتوحة؟
أسئلة أسئلة تكرج على ألسنة اللبنانيين، كل اللبنانيين، التواقين الى وطن. لكن، هناك من يحاول أن يجيب بقول لفريدريك نيتشه فيه: “من كان يحيا بمحاربة عدو ما، تُصبحُ له مصلحة في الإبقاء على هذا العدو حياً”. فها نحن نُمسك بخيوط العنكبوت ونلفها مرساة حول أعناقنا ونظل نشد ونشد حتى يخرج الزبد من أفواهنا متلذذين بنحرِ النفس، متباهين، فرحين، بأننا لن نقوم من الموت ما دام عدونا حياً!
نجول بين صفحات التواصل الإجتماعي. نجول بين الأخبار والشائعات والتلفيقات فنجد كثيراً من الحقد. ونجد الى ذلك بعض المزاح من قلب القلق والوجع. اللبنانيون مثل الطائر الجريح. إنهم خائفون، قلقون، لكنهم كما العادة يحاولون أن يبتسموا! فها هم قلقون من سيارات ملغومة. ويعربون بنكتة: سيارة مشبوهة ركنت الى جانب رصيف ولاذ صاحبها بالفرار، ما أحدث حالة إرباك وهلع بين المواطنين، تبين لاحقاً أنها خالية من المتفجرات لكن صاحب السيارة لديه إسهال!
اللبنانيون شعبٌ يستحق الحياة لكنهم يرقدون اليوم تحت وابل من التعاسة لا توصف. والسؤال الوحيد الذي يجمع كل اللبنانيين اليوم: بالنسبة لبكرا شو؟