تخطئ المنظومة الحاكمة باعتقادها ان حدث 4 آب سيمُرُّ كغيره من المصائب التي حلَّت بلبنان، وأنّ عجلة الحياة وضعف الآمال وثقل الأحمال على اللبنانيين ستنسيهم انهم تعرضوا ظلماً وعدواناً لأبشع جريمة ارتكبت في ثوانٍ وتوازي بحجمها حرباً كاملة.
مؤلم حدث 4 آب، لكننا كنا سذَّجاً حين فوجئنا، فنمط العمل السائد في كلّ مفاصل المنظومة، رئاسةَ جمهورية ومجلسَ نواب وحكومة مستقيلة او في طور التأليف، ليس إلا التعبير الصادق عن انحلال المسؤولية الذي وَصَمَ هذه الأطراف منذ ابتلي اللبنانيون بممثليها وأتباعهم على مرّ ثلاثة عقود كانت كفيلة بتدمير حاضر اللبنانيين ومستقبلهم. وما انفجار المرفأ الا نتيجة طبيعية لهذا التحالف الجهنمي الذي ألغى الديموقراطية لمصلحة التحاصص وتعمَّد محو المسافة بين الحق والباطل، وعمَّم قيم الزبائنية والولاء للمال والخارج وجعَل أجهزة الدولة أسلاباً توزعت بين أهل السلطة وسلطة الميليشيات.
جريمة 4 آب صادمة بهوْلها، ومستمرة بقوة استمرار سلطة مَن ارتكبها. وللمتأمل بمسيرة منظومة الفساد ان يتوقع أكثر من كارثة من العيار نفسه. فالمنظومة التي كانت خادمة للاحتلال وحكمت ونهبت في ظل نظام امني سوري – لبناني مشترك، هي نفسها التي جددت نفسها بعد اغتيال 14 شباط ورفدت قدراتها بغطاء نيابي واسع للسلاح، وأبقت لبنان رهينة محور اقليمي متوّجة ذلك بفرض رئيس جمهورية وصلت في عهده البلاد الى أسفل الدركات.
تجتمع في جريمة المرفأ عدّة شغل المنظومة كلّها: موظفون مدنيون فاسدون ومهملون، وأجهزة أمنية وقضائية يتراوح سلوكها بين التواطؤ والجبن والإهمال، ورؤساء غائبون عن الوعي ووزراء شركاء، ومناطق محرّمة على التفتيش.
لن ينسى اللبنانيون تلك الجريمة النكراء. والعالم لن ينساها لأنّ تحليلها يؤدي الى فهم مخاطر تتجاوز المرفأ والمياه والكيان. لذلك يجدر بالمحقق العدلي، الذي عبَّر عن ضعف مؤسف برسالته الفاشلة الى البرلمان، أن يجدّد ثقته بنفسه وبقوة القانون وبدعم كل مواطن حر مستلهماً ضميره، فإما يتنحى ويعتذر عن متابعة المهمة، وإما ان يدَّعي على كل من له علاقة بالجريمة تورطاً أو اهمالاً، بدءاً من الرؤساء الذين علِموا بخطورة النيترات ونزولاً الى الوزراء وقادة الأجهزة، ليأتي بعدهم دور المدراء العامين والموظفين وصغار الضباط. فلا العدل يقبل بنصف حقيقة ولا دماء الضحايا رخيصة لتدخل في سوق التسويات.
لن يمرّ حدث 4 آب مرور الكرام. سنذكِّر به كلّ رابع من شهر مهما طالت الأيام. وسيبقى شاهداً على منظومةٍ لا قيامة للبنان من بين الركام إلا برحيل رموزها ومفاتيحها الى السجن، او التقاعد لكتابة الاعترافات.