Site icon IMLebanon

لا… لا… “ما خلصت الحكاية”

 

سكون البحر مخيف و”الثورة راجعة”

 

حين أطلّ المسعف في الدفاع المدني عصام من تحت الركام، بعد 18 ساعة على الإنفجار الكارثي، إستعاد كل من كانوا في الجوار بعض الأنفاس والكثير من الأمل، وراحوا يرددون على بعضهم البعض بلا هوادة “لا تستسلموا… لا تستسلموا… أصمدوا… ولا تسمحوا بتلاشي الأمل الذي يجب ألا ينقطع مثله مثل الثقة بالله لا تنقطع”.

 

… وبزغ الصباح من جديد. والصباح بعث من جديد لحياة جديدة وأمل جديد، شرط أن نتعلم ولا ننسى، وأن نقاصص ثم نسامح. زحمة السير شديدة. اللبنانيون، كل اللبنانيين، هبوا ليساعدوا في شيء ما، في أي شيء ما، مقتنعين أن المساعدة، مهما كانت صغيرة، لها مفعول “فلس الأرملة”. الجيش اللبناني انتشر على كل الطرقات التي تربط المناطق ببيروت “ست الدنيا”. طقطقات الزجاج، تحت الأقدام، شديدة. وسرعان ما يتآخى السارح في جنبات بيروت والضواحي مع سيمفونية “لحن الزجاج” التي صيغت في لبنان.

 

ثمة دموع كثيرة حقيقية على الأرض وثمة “دموع تماسيح” تبكي في مطالعات. المرفأ مقفل. نقف عند حدوده أمام مبنى الجمارك. شباب الجمارك يحملون البنادق وينتشلون صناديق من قلب المبنى الى شاحنات الى مكان ما. خريطة بيروت أخرجت ووضعت في شاحنة. الخريطة تغيرت. المعالم تغيرت. هدوء هائل على الرغم من زحمة الوافدين. هو هدوء الذهول الذي لا يزال يسيطر على كل التفاصيل. أوراق تتطاير في شارع درويش حداد الذي يحمل الرقم 71 في منطقة المرفأ في كل مكان. أوراقٌ تحدد أذونات التسليم وتواريخ الكشوفات والبيانات الجمركية والشهادات المطابقة. بيانات مؤسسة كهرباء لبنان أيضاً تتطاير. كل شيء طار في ثوان. نقرأ في الأسماء. نقرأ في التواريخ. ونتابع في تلمس حقائق الأرض.

 

مجلس الوزراء التأم. هؤلاء، أعضاء المجلس، يعدون بالكشف بشفافية وتحديد المسؤوليات بشفافية والمتابعة، حتى النفس الأخير، بشفافية. هؤلاء نسوا في لحظات أن النهاية حلّت وما عاد كل كلامهم وكل لقاءاتهم وكل استنكاراتهم تعني اللبنانيين. ننظر من بعيد الى السرايا فنجدها باهتة، باهتة حتى الموت.

 

مؤسسة عماد بهلوان ترفع الخراب. مكاتب الترانزيت والشحن كثيرة في الجوار. وكل المكاتب والمطارح مبعثرة، معجونة، وكل الوجوه تائهة مستاءة. هو “عصف” أطاح بكل مقومات الحياة. البنوك مشلعة، مفتوحة على مجهول، زاد القهر قهراً. شبابٌ وكهول، أمهات وآباء، مسنون وأطفال يفترشون الأرض أمام مدخل مرفأ بيروت رقم 3، يقلّبون بين صور أبناء وبنات “ذهبوا ولم يعودوا”. والدة عماد شفيق زهر الدين تدور بأصابعها المرتجفة بين صور هاتفها الخلوي، تتنفس من صور عماد بعض الأمل، مرددة: “دخيلكم شوفولي وينو”! رفاقه ظهروا أما هو فلا. رفاقه ظهروا أمواتاً أما هو فلا. هو اختفى مع مركبته. أحدهم، يكاد يهوي أرضاً، لكنه يثابر ليصمد مردداً “شوفولي كمان علي محسن مشيك”. مفقودون، مفقودون في كل مكان. شباب وصبايا يوزعون قناني المياه الباردة. ثمة خير كثير وألم كثير. وعبارة من الثكالى للشباب، لشباب الثورة، الذين يرفعون الزجاج، حتى بالأكف: “الله يوفقكم”.

 

مبانٍ كثيرة باتت غير صالحة للسكن. مبانٍ كثيرة تهدد من يمر الى جانبها. بيت الكتائب اشبه بخراب لكن الشباب، شباب الأمن عند المدخل، يمنعون المصورين من الدخول. بيروت منهكة تعبة حزينة. بيروت المقهورة منذ ذاك اليوم في الرابع عشر من شباط عام 2005 أصبحت في الرابع من آب عام 2020 مقبرة كبيرة. بيروت التي عشقها رفيق الحريري وغنت له يوم استشهد “بيروت عم تبكي” لا بُدّ أن يكون هو، حيث هو، يبكيها اليوم.

 

السيارات مشلوحة، محطمة، على الميلين، في كل مكان. هناك من يردد “بالرزق ومش بأصحابه”. لكن ما رأيناه مجزرة ضربت “الرزق وأصحابه”. عاملات أثيوبيات في ذهول يرفعن الزجاج من هياكل البيوت. وعمال وضبوا حقائبهم وينتظرون من يقلهم الى مكان ما فيه سقف وجدار وأمان.

 

لا شيء على حاله. لا حياة. بيروت باتت جماداً. وشارع مار مخايل المحاذي “تشقلب” وكثير من مبانيه التراثية باتت أشبه بمعجونة وحكايات “بيت بيوت”. وهناك نجد أيضاً مئات الشباب والشابات ممن “شمّروا” عن زنودهم وراحوا يرفعون الركام ويُنعشون البشر بنقطة مياه. إمرأة، في السبعين، لم تنم تلك الليلة ولن تنام هذه الليلة “فجنى عمرها راح” وهي حارسة ما تبقى من هيكل. وجوه المسنين، المثقلة بعلامات العمر، مؤلمة. وناجي، جدو ناجي، بات على الأرض يا حكم وما جناه أيضاً راح. ننظر في كل الإتجاهات. ننظر يميناً وشمالاً والى فوق وتحت علنا نرى “رزقاً” نجا. عبثاً. من المذنب؟ هم يحققون وسيحققون وستطول التحقيقات علنا ننسى. ألم تسمعوا حسان دياب ذاك يتحدث عن “ضرورة وقف السجالات فالناس مش ناقصها سجالات وهذا وقت العمل”. ذاك تذكر بعد أن وقعت المصيبة الكبيرة أن أوان العمل قد آن. فعن أي عمل يتحدث؟ وهل سيعيد “العمل” كل من ماتوا وضاعوا وهلكوا؟ كلام كلام…

 

سيلفانا، المقعدة، حاولت أن تركض حين صدحت “المفرقعات” الكارثية فوقعت أرضاً ونزفت كثيراً. وجورج، ختيار حيّ الرميل، حاول أن يتلطى في الرواق فسقط فوق رأسه السقف وسقط هو مضرّجاً في دمائه… أسماء وحالات فهل ندرجها في خانة “القضاء والقدر”؟

 

كل البزات العسكرية هنا. جيش وقوى أمن وأمن عام وجمارك وقوة ضاربة وإسعاف وصليب أحمر وزمامير، زمامير تعيد من نسي، ولو للحظات، حجم المصيبة الى الواقع، الى الأرض، الى بيروت المنكوبة.

 

خمسة ملايين دولار، لا ستة، لا، لا سبعة… قيمة الخسائر المادية تُحلق. ننظر صوب البحر الذي يبدو هادئاً. هناك، في قعر البحر، جثث. اللبنانيون الذين بلعوا البحر في عمرهم لن يقبلوا بجرعات جديدة. آن أوان ألا يسمحوا بالاستهتار بحياتهم بهذا القدر والحجم. ننظر الى البحر الساكن كثيراً. كم أصبح لدينا من أحباب فيه. تُرى هل سينتفض هو أيضاً ويثور؟

 

المستشفيات التي كانت قد أعلنت بدل المرة مرات أنها ما عادت قادرة على الصمود “تشقلبت” حالها، كما لم تكن يوماً، رأساً على عقب. القطاع الإستشفائي النازف، الذي خسر من طاقمه التمريضي ومن مرضاه، في “بلبلة” هائلة. و”كورونا” ما عادت في حساباته حساباً أوّل. مستشفى الكرنتينا الذي كان يستقبل الأطفال والخدج، في قسم نموذجي، وكان ضجيجهم يصدح في الأروقة خسر “روحه” وخسروه. أشجار الكينا اقتلعت من بكرة أبيها، وشجرة الزيتون التي زرعت قبل أعوام قليلة في الباحة الخارجية عنوان الخير والبركة تكسرت أغصانها. المستشفى ما عاد يصلح لشيء.

 

وماذا بعد؟ نطوي الصفحة في انتظار “انفجار” آخر من انفجارات الذل واللامبالاة والفوضى المستعرة؟ هل ننسى أجمل الشباب والشابات الذين نذروا العمر في الدفاع المدني والصليب الأحمر والمؤسسة العسكرية؟ هل نراهن على “نشاف” دموع الأمهات والآباء وننسى؟ “لا، لا ما خلصت الحكاية…”.