يتوه من يسمع أحمد قعبور بـ”بيروت زهرة”، بين كون كاتبها وملحن كلماتها ومرنمها، يرثيها، أو يرثي لحالها، أو يستبكينا على أحوالها وأحوالنا، أو هو يستنهض ماضيها وألق أيام كانت لها، ليستفز حنينا لدينا، ربما مات، إلى وصل ما انقطع من سيرة كانت فيها “تحدي الشرق للغرب”، كما قال إبانها المفكر المرحوم منح بك (الصلح)؟!
ليست “بيروت زهرة” مما يستهوي الذوق الهابط السائد: ليس في كلماتها إلا ما يدعو إلى التأمل في أحوالنا وأحوال المدينة التي كان كثيرون، في غابر زمانها، وزماننا، يرون فيها قبلة غدهم وتقدم أحوالهم، ورقي فهمهم.
وليس في كلماتها ما يدّعي الشمولية المعرفية. فما يعيدنا فيها إلى ماضي أيام بيروت، يتكئ على الذاكرة الفنية الثقافية، أي ما أعطاه أهل الغناء واللحن والمسرح، والكتابة، ليكون روح بيروت، وهذه من نسل الإبداع، وسليل الجهد العقلي، وتطويع الكلمة للحن، وبالعكس، وارتباط الفن، كل فن، بحس الجمهور، بمعنى الرأي العام، العريض، ومنه النخبة، بلا تناقض، والتفاعل مع اعتراض هذا الرأي العام وارتياحه، على مفاصل يومه، ولها.
“بيروت زهرة”، أغنية في أوانها، بعدما ازداد الأفق ظلمة، واستفحلت الأزمات بلبنان، إلى حد ذكر بما تعاقب على البلد، من حالات بانت، في لحظتها، مستعصية على الحلول والتسويات. لكن الظلمة لم تلبث أن انقشعت عن فرج لم يكن في الحسبان، أعاد الفرحة إلى من طال حزنهم، ومن كانوا رددوا “يا ضيعانك يا بيروت”.
راهنا، تنوء بيروت، ومعها لبنان، بأثقال المنطقة، ويداخل اليأس ناسها، من دون أن يديروا الظهر لأمل لا بد آت، برغم ما يزكم الأنوف من نفايات الحياة، في السياسة والاقتصاد والمال، والإدارة، والاجتماع، فيما أهل القرار يتبرأون مما جنت أيديهم بأن يستبق كل منهم الآخر، باتهامه وادعاء العفة الذاتية. وما أبرعهم في ذلك.
“بيروت زهرة” ليست لأحمد قعبور، لأنها تنسل من معاناة كل من عاش بيروت، وعايشها، وعاش فيها ومعها، وعرف عزها وصعودها، ولم يغادر عشقها يوم تألب عليها السوء، وعتّم دروبها. وكل من سمعها، وسيسمعها، سيشعر بأنها كلماته، وتعبيراته وتوصيفاته: من ينسى أن بيروت فتحت أبوابها للناس، لكل الناس، مرات، ومرات، ولم تنتظر شكرا من أحد. ومن ينسى صمودها في وجه الحصار الإسرائيلي، وكل حصار، وصمت ألمها على من غدر بها وبأبنائها؟ وفي كل مرة، كانت كطائر الفينيق تحلّق مجددا، ومن الرماد يخفق قلبها الأخضر.
ليست بيروت مدينة عابرة، وليس من المبالغة أنها، بذاتها، أسلوب في الحياة، تأتيها الحرب: فتخترع “واحات” للسلم. تفتقد النور، فتستنبط أضواء، وينقصها الماء فتسقيها العيون. فبيروت، كما نقل قعبور عن الكبير عمر الزعني: بيروت “بتعيش على أمها وما بتموت”.