غريبٌ أمرُ اللبنانيين. قادرون على تطويع أيِّ شيء وترويضه وفق مصالحهم مهما كان صلباً. قُدِّر للنظام النسبي أن يكون مصنعَ الأفكار والمشاريع والطروحات التي تعبّر عن اللائحة الانتخابية بمعزلٍ عن أسماء وأهواء ركّابها. يكفي الناخب أن يتعرّف الى الهوية السياسية للائحة ومشروعها لكي يصوّتَ لها أو لمنافستها، قبل التفكير لمَن «سيفضّل» صوته، فيكون الأخير بمثابة «حبّة مسك» للائحة.. لا العكس.
لكنّ الطبقة السياسية اللبنانية حوّلت النظام النسبي نظام الصوت الواحد، فصار الركض خلف الصوت التفضيلي هاجس «الصباح والمسا» وسبباً كافياً لحروب «قايين وهابيل». لا يهم مَن هم الحلفاء أو الرفاق أو الأصدقاء. لا مشكلة إذا اختلفوا سياسياً أو تواجهوا عقائدياً. لا حراجة في تأليف لائحة بِلا نكهة أو لون، ولا ضير في ضمّ «دِببة» الى «كرم واحد»، لأنّ «اللهمّ نفسي»!
ومع ذلك، يمكن الدائرة الأولى في بيروت أن تخرج عن السياق. ما تهرّبت القوى السياسية من الانضباط تحت سقفه، يمكن الناخبون أن يفرضوه. تكفي العودة الى نتائج الانتخابات البلدية للتأكد من أنّ مزاج ناسها قد يعيد النكهة السياسية الى خياراته الانتخابية. مشهد اللوائح المتنافسة يُثبت بالصوت والصورة أنّ معركتها سياسية بامتياز يمكن كتل ناخبة غير مرئية فيها أن تغيّر المعادلة وتثير المفاجآت.
هنا، يمكن مجموعات الحراك المدني التي انتظمت في إطار «كلنا وطني» أن تستثمر الجوَّ الاعتراضي الذي عبّر عنه الناخبون في صناديق «البلدية»، حتى لو خرج مَن يقول إنّ المقارنة بين الاستحقاقين غير جائزة، لكنّ الانتخابات البلدية في العاصمة سياسية الطابع.
إذ نجح ممثلو هذه المجموعات في تخطّي العقبات التي كادت في «لحظة تخلّي» أن تطيح كل المجهود الذي سبق ولادة الإئتلاف، لكنّ اصرارَها على خوض الاختبار النيابي موحّدة ساعدها في المضي قدماً الى طرح نفسها بمثابة «فرصة» أمام الناخبين للاقتراع ضد الخيارات السياسية التقليدية التي تدلّ المؤشرات الواحد تلو الآخر، الى أنّ حضورها الشعبي في تراجع واضح.
المواجهة ليست بسيطة. في الأساس، تحدّي الإلتقاء في لوائح موحَّدة لم يكن أمراً سهلاً، فالأحزاب العتيقة، «الحديدية» وحتى الشبابية منها، تعجز عن تخطّي حاجز التسميات والترشيحات بلا أضرار وتداعيات تترك ندوباً على التنظيم. فكيف بالحري مجموعات غير مؤطّرة ولا تزال طريّة العود؟
أما وقد فعلتها «كلنا وطني» وانضمّت الى سباق العاصمة في دائرتها الأولى عبر لائحة مكتملة تثبت الأرقام أنها تتمتع بمقوّمات المنافسة، لا بل يبدي أعضاؤها تفاؤلاً «موثّقاً» بالمعطيات أنها انتقلت الى مربّع «الحاصل الثاني» بعدما بات الأول في «الجيب»… فصارت شوارع بيروت حلبة ملاكمة قاسية!
بالتفصيل، يبتيّن أنّ هذه الدائرة قادرة على جذب الانتباه بسبب المنافسة الشديدة بين خمس لوائح، ثلاثة منها مكتملة، وكون المعركة سياسية قادرة على «نبش» كتل ناخبة لم تعرف سابقاً طريقها إلى أقلام الاقتراع… ومع ذلك، قد تكون من أكثر الدوائر إثارةً للغموض.
فقد سبّبت التحالفات الهجينة زوبعة من الفوضى في خيارات الناس، كما أنّ قانون الاتخابات لم يوفّرهم من «وجع الرأس». فبات الوصول الى خلاصات نهائية حاسمة أشبه بضرب من ضروب الخيال.
الأكيد أنّ اللائحتين الحزبيّتين (لائحة تحالف «التيار الوطني الحر»- حزب «الطاشناق»- حزب «الهانشاك»، تيار «المستقبل»، ولائحة «القوات»- «الكتائب»- الرامغفار- ميشال فرعون- انطون الصحناوي) تنطلقان من بلوكات حزبية معروفة الأحجام والأرقام.
لكنّ الخشية هي في عدم تمكّنهما من بلوغ عتبات جديدة لعدم قدرة الأحزاب على إقناع شرائح جديدة بخطابها وأدائها. فلها ما لها، فقط… وتحديداً على هذه البقعة المسيحية التي بيّنت الأحداث أنها مناخٌ غيرُ مؤات للأحزاب، في الوقت الذي يعتقد أعضاء لائحة «كلنا وطني» أنها تلعب في ملعبها وأمام جمهورها وأنّ في إمكانها تسجيل الأهداف بسهولة.
أضف الى ذلك، فإنّ اللائحتين الحزبيّتين تعانيان من ظلم ذوي القربى بسبب التنافس على الصوت التفضيلي الذي يأخذ أنماطاً مشروعة أحياناً وغير مشروعة أحياناً أخرى.
ففي لائحة «التيار الوطني الحر» يواجه مرشح الحزب نيكولا صحناوي منافسة كلٍ من مسعود الأشقر والعميد المتقاعد انطوان بانو على الأصوات البرتقالية لرمزية الأخير لدى الجمهور العوني ولعلاقة الأشقر المتينة والعتيقة بالجمهور نفسه، مع العلم أنّ بانو يرفض حصره بالشريحة السريانية ويحاكي المناخ العوني عموماً هو الذي يعرف المنطقة شبراً شبراً.
ولكن وفق اللائحة، فإنّ هذه المنافسة تزيدها حيويّة ومتفق على سقفها، حيث ستعمد قيادة الحزب قبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع الى دوزنة مسارب أصواتها الحزبية، التي ستكون محصورة بين بانو وصحناوي وفقاً لحيثية كل مرشح.
المشهدُ نفسُه يُرصد في اللائحة «القواتية» حيث بلغت شكوى مرشح الحزب عماد واكيم من مزاحمة «رفيقه» رياض عاقل، مكاتب معراب ما دفع رئيس الحزب سمير جعجع الى توجيه المحازبين لانتخاب واكيم فقط، خصوصاً أنّ ترشيح عاقل لاقى أصداء إيجابية في صفوف القدامى نظراً لرمزيته في وجدانهم وتاريخهم. ولا حاجة الى التذكير بمكانة النائب نديم الجميل لدى هذا الجمهور تحديداً، حتى إنّ ماكينات هذا الإئتلاف راحت تكتشف أنّ قواعدها متشابكة وبعضها يأكل من أطباق بعض.
وبعدما بيّنت حركة «الطاشناق» أنه سيوزّع أصواته التفضيلية بين مرشح أرمني أرثوذكسي وآخر كاثوليكي (سمّى ثلاثة مرشحين لكنه سيُفضِّل لاثنين فقط بسبب هجرة عدد كبير من الناخبين)، سارع انطون الصحناوي الى البحث عن «سِتر إنقاذ» من الدفاعات «القواتية» تقيه الهجوم «الطاشناقي» كون مرشحه أرمنياً كاثوليكياً (جان طالوزيان).
وغوصاً في «معجن» الكتل التي تعمل اللوائح على جذبها، يتبيّن أنها كالآتي:
- كتلة المتردّدين الذين يبدون إنكفاءً عن القوى التقليدية بسبب اعتراضهم على أدائها أو تحالفاتها. وهذه المجموعات تشكل أرضاً خصبة للائحة «كلنا وطني» لكي تعمل على إقناعها وجذبها الى حقلها.
- كتلة الناخبين الجدد أو ممَّن لم يقفوا يوماً أمام صناديق الاقتراع وهؤلاء أيضاً يشكلون مادة دسمة بالنسبة الى القوى الجديدة كونها «غيرَ مجرّبة» بعد وقد تُعطى فرصة من جانب هذه الشرائح.
- العائلات الأرثوذكسية البرجوازية ولهؤلاء كلمة فصل في استحقاق بيروت ولهم نظرتهم الخاصة. مَن يعرف طبيعة هذه البيئة يدرك جيداً أنّها لن تسلّم زعامتها لمرجعية حزبية، مارونية في حالة واكيم، وسنّية في حالة نقولا شماس كونه أقرب الى تيار «المستقبل» منه الى «التيار الوطني الحر». وبالتالي سيبحث أبناؤها عن خيارات أخرى تعيد لهم مكانتهم «على أرضهم».
- الكتلة غير المسيحية، أي السنّية والشيعية المقّدرة بنحو 15 ألف ناخب. وبحسب المعنيّين يمكن كل اللوائح أن تغرفَ من هذه البيئة كونها غير مؤطّرة حزبياً ومتفلّتة من الضوابط السياسية.