IMLebanon

بيروت تخسرُ بحرها

ليس سهلاً تحديد مكمن الفاجعة في تعاطي السلطة التنفيذية في لبنان (بحكوماتها المتعاقبة منذ «الطائف») مع شاطئ البلاد الذي تديره، أو يُفترض بها أن تكون. أهو يتصل بتعاملها معه، بل مع مسألة المساحات العامة بمجملها، باعتبار الأمر ترفاً يجوز أن يتنازل المواطن عن حق التمتع به؟ أم أن مكمن الفاجعة يتعلق باستخفافها المُحقّر لأولوية المصلحة العامة على الخاصة، كمبدأ يقوم عليه العقد الاجتماعي في أي دولة أنجزت دخول القرن العشرين (أي الفائت) بنجاح، حتى لو استوجبت تلك الأولوية تعديل القوانين (التي يُفترض أن يكون إقرارها خادماً للمنفعة العامة أصلاً)؟

تمثل قضية «الرملة البيضا»، آخر الشواطئ العامة في بيروت، امتداداً لملف مفتوح منذ نهاية الحرب الأهلية مطلع التسعينيات عنوانه «الأملاك البحرية». ويمكن للراغب أن يعود إلى تقرير نشرته «المفكرة القانونية» للزميلة جويل بطرس في آذار 2015، يشرح بالتفصيل كيف قُتلت الرغبة باستعادة الحق العام على مدار ربع قرن قتلاً بطيئاً. كانت مشاريع القوانين الهادفة إلى معالجة التعديات على الأملاك البحرية التي أصبحت أمراً واقعاً بعد الحرب، والتي تشغل أكثر من مليونين وثمانمئة ألف متر مربع (1456 مخالفة)٬ تُكدَّس في الأدراج الواحد منها تلو الآخر. كان وزير المال آنذاك فؤاد السنيورة يصرّ على إبقاء لائحة المنتفعين من المخالفات (التي أُرفقت بدراسة صادرة عن وزارة الأشغال في التسعينيات) طي الكتمان، معتبراً أن «الأساس معرفة طبيعة التعديات»، فيما كان عدد من القوانين المعروضة لـ «معالجة» المسألة يثير فزع بعض أركان الطبقة السياسية نفسها (والتعبير عن الفزع غالباً ما يرتبط بالمصلحة الخاصة)، إلى درجة دفعت بالنائب وليد جنبلاط إلى وصف أحدها بأنه «مشروع همايوني مخيف فيه استباحة عامة للأملاك البحرية والنهرية».

يصعب تصور الموات الذي تعيشه «الرملة البيضا»، الشاطئ المجاني الوحيد في بيروت، على أنه نتاج صدفة. فبلدية العاصمة التي تم التجديد لممثلي رعاتها السياسيين في الانتخابات الأخيرة، أقرّت تسليط مجاري الصرف الصحي نحوه منذ سنوات، ووزارة البيئة غابت عن السمع تماماً. ثم فجأة بات النقاش يرتبط بمدى جواز استعادة ملكية بعض عقارات الشاطئ البيروتي ممن تملّكها بحكم تشريعات فُصّلت لخدمة كبار تجار العقارات، لقاء مبالغ خيالية. علماً أن النقاش ذاك يتجاوز مبدأ إيلاء المصلحة العامة أولوية على الخاصة، ويتضارب مع النص القانوني الصريح الذي يعود إلى العام 1925، والذي يؤكد أن الأملاك العمومية أصلاً «لا تباع ولا تكتسب ملكيتها بمرور الزمن».

ليست الغاية في الختام أن نقارن بمن يتجاوزنا بسنوات ضوئية. لكن لا بأس باستعراض ما لدينا في لبنان قياساً بـ «العالم الأول»، خصوصاً أن التعدي على الأملاك العامة يتفيّأ في العادة بمتطلبات السياحة والخدمات. في أيار 2015، خلُص تقرير نشرته «الوكالة الأوروبية للبيئة» إلى أن 95 في المئة من مواقع السباحة الخاضعة للرقابة في دول الاتحاد الأوروبي تتمتع بالحد الأدنى من جودة المياه وفقاً للمعايير الصحية المعتمدة٬ بينما صُنفت 83 في المئة منها في فئة «الممتازة». علماً أن الوكالة التابعة للاتحاد تُصدر تقريرها سنويا وتتناول فيه تقييمها لأكثر من واحد وعشرين ألف موقع ساحلي وداخلي (بحيرات وأنهاراً) في أوروبا. لكن الأهم من هذا كله أن المواقع الخاضعة للرقابة تلك متاحة للعموم كلّها. في المقابل، قد تصبح مدينة بيروت أول عاصمة ساحلية في العالم تخسر منفذها العمومي على البحر.