مع بدء الكونغرس جلسات الاستماع التمهيدية، لمناقشة مشروع قانون لتوسيع دائرة العقوبات على «حزب الله» والمتعاملين معه، هناك مجموعة تساؤلات تتمحور حول نقطة واحدة : كيف تمضي واشنطن في التشدّد من جهة في هذا المشروع، وهي تعلم ان الوضع المالي والاقتصادي في لبنان سيكون مُهدداً، وكيف تُصدر من جهة أخرى اشارات تؤكد على حرصها على استقرار الوضع اللبناني؟
ما يراه البعض تناقضاً في المواقف الأميركية، يعتبره آخرون سياسة براغماتية اكتسبت زخما مع ادارة دونالد ترامب. هذه السياسة بالذات هي التي أدّت على سبيل المثال لا الحصر، الى ان تقترح الادارة الاميركية على الكونغرس في اطار مشروع موازنة 2018، خفض المساعدات بالسلاح والعتاد الى الجيش اللبناني من 85 مليون دولار الى صفر، وترسل بعد ايام الى بيروت قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال جوزف فوتيل ليجول على جبهة جرود عرسال ويعلن ان الجيش الاميركي مستعد لفتح مخازنه للجيش اللبناني!
الى جانب هذه السياسة البراغماتية، هناك تغيير في الاهداف الاميركية بناء على ما هو مُعلن. وقد يكون النموذج القطري كافيا لتقديم شروحات حول سياسة التناقضات البناءة بالنسبة الى السياسة الاميركية. وتماما مثل بيروت، كانت الدوحة تراهن على علاقاتها الجيدة مع واشنطن، وعلى المصالح الاميركية المرتبطة بقطر، لكي تبني سياستها على اساس انها محمية. لكن هذا الرهان سقط نسبيا، مع ما جرى أخيراً.
وللتذكير، تحتضن قطر قاعدة جوية اميركية غرب الدوحة، وتوجد في هذه القاعدة اعتدة قوات التحالف وموجودات عسكرية أخرى. كما تستضيف الدوحة مقر القيادة المركزية الأميركية، كما أنها مقر لمجموعة قتالية تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، وهي مقر لمجموعة عسكرية خاصة تابعة للقوات الجوية الأميركية.
وتشتمل القاعدة على مدرج للطائرات يعدّ من أطول الممرات في العالم، واستعدادات لاستقبال أكثر من 100 طائرة على الأرض، ما جعل بعض العسكريين يصنفونها أكبر مخزن إستراتيجي للأسلحة الأميركية في المنطقة.
وحتى في السياسة بمفهومها الاستراتيجي، من المعروف ان قطر بادرت الى اقامة علاقات تجارية مع اسرائيل منذ العام 1996، وسمحت بفتح مكتب تجاري اسرائيلي في الدوحة، ووقعت اتفاقيات لتصدير الغاز الى اسرائيل. هذه الخطوات لها حساباتها، اذا ما أخذنا في الاعتبار ان اسرائيل ومصالحها في رأس الاولويات الاميركية في المنطقة.
بالاضافة طبعا الى اهمية الغاز في دعم التحالف الغربي، اذ برزت قطر كبديل محتمل عندما تأزمت العلاقات بين الولايات المتحدة واوروبا من جهة، وروسيا من جهة اخرى على خلفية الأزمة الاوكرانية.
كل هذه النقاط الاستراتيجية التي يفترض ان تحمي قطر لم تنفع. وتبدو واشنطن اليوم وكأنها الأشد حماسة في محاصرة قطر، لدفعها الى تغيير سياستها في قضايا تعتبر الادارة الاميركية الحالية انها خط أحمر ممنوع تجاوزه. هذا الخط الاحمر يتعلق بمحاربة الارهاب، وفي الحالة القطرية، الاتهامات تطاول قطر من ناحيتين: الارهاب الذي تمثله المنظمات الاسلامية الراديكالية (سنّة)، والارهاب الايراني (شيعة).
في الوضع اللبناني، وانطلاقا مما تقدّم، يمكن تقدير الخلفيات التي تدفع الاميركيين الى تبنّي مشروع قانون العقوبات الجديد على حزب الله، والذي يسميه البعض قانون العقوبات على لبنان، على اعتبار ان الاجراءات المطلوب اتخاذها سوف تؤذي البلد واقتصاده، وتأخذ في طريقها المُستهدف وغير المستهدف، على اعتبار ان الخسائر ستلحق بالجميع.
بالمقارنة مع الوضع القطري، لا يمكن القول ان بناء سفارة اميركية في لبنان هي الأضخم في المنطقة، والبعض يعتبرها بمثابة قاعدة عسكرية اميركية، أهم من القواعد العسكرية الاميركية في الدوحة. ولا يمكن القول ان مشكلة النازحين السوريين، وحرص واشنطن على بقائهم في لبنان، وعدم دفعهم الى الهجرة القسرية نحو العرب، هو أهم من الحرص على امدادات الغاز القطري الى الدول الحليفة لأميركا في آسيا وأوروبا.
هذه المقارنة بين بيروت والدوحة، تعيد الى الأذهان قصة قديمة حصلت في منزل نائب بيروتي استقبل في حينه الجنرال السوري غازي كنعان، عقب دخول القوات السورية الى لبنان، وخوضها بعض المعارك ضد معترضين على دخولها. يومها، وفي صالون النائب، تجمع عدد من الاصدقاء للتعرف الى كنعان. وسأله أحد الحاضرين من باب التودّد : سيادة الجنرال كيف كانت تجربتك في بيروت؟
نظر كنعان الى السائل وأجاب بفتور واستفزاز: ليست لدي حتى الان تجربة في بيروت. تجربتي الأخيرة كانت في حماه، وبيروت ليست أعزّ من حماه. وكانت تلك اشارة الى الحرب المدمرة التي خاضها النظام السوري ضد متمردين في حماه، حيث دمر المدينة على رؤوس المتمردين والسكان، وأنهى التمرّد.
في مفهوم من يحارب الارهاب اليوم، بيروت ليست أعزّ من الدوحة.