من «البريستول» و«قرنة شهوان» إلى «أوتيل مونرو»: البداية في كسر حلقة الصمت
صرخة النُخَب الشيعية والبيان التأسيسي للمبادرة الوطنية محاولتان لمشروع استنهاض وطني بالمعارضة الديمقراطية
بين لقاءي «أوتيل مونرو» الصباحي والمسائي يوم الأربعاء الماضي، ثمة مساحة مشتركة، وجوه تشبه بعضها البعض بهواجسها وأحلامها وخيباتها وطموحاتها، والأهم ذاك الشبه في العزم على الخروج من شرنقة الشعور بالعجز أو خيار «الانتظار على حافة النهر» أو الرهانات على متغيرات تطل من وراء البحار.
في القاعة نفسها، ربما من قبيل الصدف أو الإيحاء بخيط رفيع يربط بين التحرُّكين، كان اللقاء الأول الذي ضم نُخباً شيعية في الهوية لكنها مستقلة أتت من مشارب مختلفة خارج «الثنائية الشيعية» لتطلق صرخة هي في حقيقة الأمر صرخة وطنية لواقع لبناني بات في القعر، حيث أن «سلطة المحاصصة الطائفية قد تجاوزت كل الحدود، بعدما أطاحت بالدستور والقوانين وقوَّضتْ الإدارة وأنظمتها وجيَّرتْها للأزلام والمحاسيب، وعطَّلتِ الحياةَ البرلمانيةَ والمؤسسات الدستورية والإستحقاقات الديمقراطية، وسخَّرتْ الوطن لأجندات إقليمية خارجية واستباحتْ الأملاك والمرافق العامةَ والبلدية، وباشرتْ استحواذ الثروة النفطية وأغرقت البلاد والعباد في دين متفاقم سيسترهن المواطنين لأجيال مديدة».
هي نخبة تحمل هماً وطنياً وتطرح مشروع بناء دولة مدنية قوية وقادرة.. دولة سيدة على أرضها وحدودها… دولة عدل وقانون لا دولة ظلم واستبداد».
لكن التساؤل البديهي يكمن في سبب اتخاذ هذا اللقاء طابعاً شيعياً ما دامت طروحاته وطنية بامتياز» وهي مطلب كل لبناني وطني إلى أي طائفة أو منطقة انتمى، وهو تساؤل مشروع لولا أن الإجابة عليه جاءت في متن النداء الذي حمل عنوان:«آن لدولة مدنية أن تُبنى، والانتخابات النيابية بداية قيامتها»، وفي نقاشات المشاركين الآتين من خلفيات علمانية ويسارية ومؤمنة لم تكن يوماً ضمن منظومة التمترس الطائفي قولاً وفعلاً.
السبب هو أن «التغيير في الساحة الشيعية هو أساس مفصلي للتغيير في كل لبنان عبر وضع حد لإحتكار التمثيل الشيعي في السلطة، وتوسيعه لصالح فضاء مدني أرحب. قد يكون مفيداً ومساعداً تجديد النخب السياسية على مستوى الوطن كله، لكن استمرار التمثيل الشيعي على حاله يجعل من كل تقدّم في الساحات الأخرى، جزئياً، قليل الجدوى، ويمكن الإلتفاف عليه ومحاصرته. فالإنسداد الوطني لا يمكن إزالته إلا بتغيير حقيقي في البرلمان والسلطة وتلك مسؤولية وطنية وضرورة لبنانية تقع على عاتقنا وعاتقكم، وأن إختيارنا الحرَّ لممثلينا في الإنتخابات النيابية القادمة هو بداية لإصلاح منشود يوقف الإنزلاق نحو الهاوية».
هي قراءة منى فياض وحارث سليمان وغالب ياغي ويوسف مرتضى والشيخ عباس الجوهري وخليل كاظم الخليل ومصطفى فحص وعلي الأمين ومالك مروه وغيرهم كثر من أبناء العشائر والعائلات والنخب الثقافية، وفيها ثمة إقرار بأن «الثنائية الشيعية» وبالأخص «حزب الله» يضع يده على البلاد» حيث محاولات عديدة عقيمة قامتْ بها أطرافٌ وقوى مختلفةٌ، لعقدِ تسوياتٍ بين منطقِ الدولة ولا منطق الدويلة، وفكّ إرتباطِ أزمة الإقليم بالواقع اللبناني: فلا النأي بالنفس، ولا تحييد لبنان عن النزاعِ الإقليميِّ، ولا الإلتزام بقرارات الشرعيّة الدوليّة أثمرتْ، بل إستمر الإصرار والإمعان في أخذ طائفة بمجملها الى «صحراء تيه سياسي وثقافي في خدمة أجندات إقليمة»، وفي الإشتراك في حرب دائرة على قاعدة إنقسام مذهبي سيحرق بلهيبه مستقبلنا».
ففي بلد يقع على فالق هذا الانقسام المذهبي، تصبح المسؤولية على المتنوِّرين الشيعة مضاعفة، والبداية لا بد من أن تكون من قلب البيت، بمعزل عن حجم القوى المعترضة قياساً للقوى القابضة على البيئة الشيعية ترغيباً وترهيباً. فالتغيير لم يبدأ يوماً من كثرة بل من قلة تجرأت على قول «لا» وعلى رفض الواقع وعلى كسر حاجز الخوف وعلى السير بخطوات صغيرة والمراكمة عليها. هو المسار نفسه التي سارت عليه لائحة «بعلبك مدينتي» والتي استطاع رئيسها غالب ياغي في عقر دار «حزب الله» أن يحصل على نحو 48 في المئة من الأصوات. هو دليل على وجود صوت معترض صامت، لا بد من خلق المناخات المؤاتية للتعبير عن نفسه. ليس لدى تلك النخبة التي يبدو جلياً ثقلها البقاعي دون التقليل من حجم المشاركين الجنوبيين «هوس» الوصول إلى البرلمان، بقدر ما تعتبر أن الانتخابات النيابية فرصة ثمنية يجب الإفادة منها من أجل إخراج الناس من حال الخنوع والرضوخ والخوف والتسليم المسبق، عبر التواصل معها ما دام قانون الانتخابات مبنياً على أساسي طائفي بما يشكل هذا الاستحقاق من مناسبة يمكن المراكمة عليها للمستقبل. فالتغيير الديموقراطي هو مسار طويل من حيث المبدأ إذا لم تطرأ عوامل مفاجئة قد تُسرّع به.
«المعركة هي معركة كل لبنان في مسيرة بناء الدولة الوطنية المرتجاة» هي خلاصة اللقاء الصباحي، ومدخل اللقاء المسائي لـ«الهيئة التحضرية لحركة المبادرة الوطنية» التي ترى «أنه لا يكاد يمر يوم إلاّ ويحدث في لبنان ما يشير إلى أنّ التفلُّت الدستوري والقانوني والسياسي والأمني، والذي تقوم به أطراف سياسية مشاركة في الحكومة اللبنانية، والميليشيات المسلحة الكبرى والصغرى، لا يتم مصادفةً، ولا يتّسم بالتردد أو التهيّب، بل المقصود من ورائه ضرب الطائف والدستور والعيش المشترك، وإسقاط إمكانيات التوافق الوطني على قاعدة التوازُن، وبناء المستقبل بالمشاركة والمواطنة والاستقلال الوطني والانتماء العربي».
هنا على مقلب الهيئة التحضيرية، التنوع الطائفي والمناطقي هو الأساس والجوهر والمنطلق حيث أن تمتين الجسور بين المسلمين والمسيحيين بما تجسده من وحدة وطنية هي نقيض مشاريع الهيمنة الفئوية على صيغة الاجتماع اللبناني ودولته. ويشكل كلٌّ من فارس سعيد ورضوان السيد ركيزتين أساسيتين لهذا التحرك مع مجموعة كبرى جلُّهم خرج من رحم قوى «الرابع عشر من آذار» بعدما انحرف قادتها ولاسيما زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري ورئيس «حزب القوات اللبنانية سمير جعجع عن مسارها. هؤلاء لا زالوا يتمسكون بروح الحلم الذي دفع ثمنه نخبة من الشهداء باقون في الذاكرة وفي صورهم المعلقة على جدران الامانة العامة لـ 14 آذار الذي يحرص سعيد على الحفاظ على روح وفكرة 14 آذار التي ليست ملكاً لفرد أو حزب بل لملايين اللبنانيين الذين غصت بهم ساحة الشهداء في ذلك اليوم التاريخي من عمر لبنان في الرابع عشر من آذار 2005، يوم وحّدت دماء رفيق الحريري المسلمين والمسيحيين في انتفاضة على الهيمنة السورية، ويوم أضحى شعار «لبنان أولاً» هو الشعار الأحب للبنانيين الاستقلاليين. لكنه يحرص رداً على كل استفسار من الحاضرين أن يؤكد أن الهدف ليس استنساخ 14 آذار ولا اعادة استنهاضها، ولا الهدف انتخابياً، ذلك أن الأزمة اليوم تتجاوز أزمة معارضة وموالاة لتلامس الأزمة الوطنية، وحيث أن رضوان السيد يرى «أن نظامنا الدستوري قائم شكلاً وكذلك آليات حكم القانون لكن الواقع المعاش غير ذلك تماماً».
قراءة الهيئة التحضيرية واضحة لجهة رفض الاستمرار في الخضوع لمنطق التسوية التي أتت برئيس الجمهورية وبالحكومة الحالية، والتي تحولت إلى استسلام باهظ الكلفة على لبنان ونظامه ودستوره وحكم القانون فيه، وسياسته الخارجية، وانتمائه العربي، ذلك أن «كل الظواهر والمظاهر تؤشر إلى تصدُّع الدولة ومؤسساتها، وسيطرة «حزب الله» على الحياتين السياسية والأمنية، وإلى حصول انحرافات خطيرة في السياسة الخارجية للبنان في ظل الفساد الحاصل في الإدارة، وتحديات الحصار الذي يتعرض له لبنان في ماليته العامة وقطاعاته التجارية والمالية والاقتصادية، بسبب الميليشيات المسيطرة على أمنه، وقضائه، ومطاره ومرفئه والمرافق العامة الأخرى».
حركة المبادرة الوطنية مشروع يطمح القيِّمون عليه إلى الإعلان عن البيان التأسيسي في غضون أسابيع كإطار وطني جامع قادر على التجسير والتشبيك مع المبادرات الأخرى لإطلاق حملة استنهاض وطني كبير لتصحيح المسار بالمعارضة الديمقراطية من طريق جمع شمل المجموعات المدنية والتنموية العاملة على الأرض، وتشجيع مجموعات جديدة، تعمل جميعاً معاً على تطوير المشروع الوطني الجديد.
ما يجري باختصار أن بيروت تشهد حراكاً يعيد إلى الذاكرة بدايات «قرنة شهوان» والمنبر الديموقراطي» و«لقاء البريستول» وكل الحراك الذي لم يكن أحدٌ ليظن يومها أنه قادر أن يشكل النواة لحراك أكبر في لحظة انفجار الاحتقان. المقارنة قد تصح بين مرحلة الأمس من الوصاية السورية ومرحلة اليوم من الوصاية الإيرانية لحجم الاحباط والاحتقان الحاصل على الساحة اللبنانية مع فريق يظن أنه يعيش نشوة الانتصار بفعل تطورات الإقليم وفريق يشعر أنه مهزوم وأن زعيمه يسلك مساراً استسلامياً غير مفهوم، لكن هل يمكن المقارنة بين حراك الأمس وحراك اليوم بما قد يشكله من خلق نواة لانتفاضة ثانية تحاكي «انتفاضة 14 آذار» الأولى في «لحظة ما»، أم أن الواقع بات صعباً زعزعته وتغيير ما تمّ تكريسه إلى الآن؟!