تطرح انتخابات بلدية بيروت معضلات صحة التمثيل في اجتهادات العدالة الدستورية من منظور عالمي ومقارن. لكن غالباً ما يختزل من يعتبرون أنفسهم اختصاصيين في القانون الدستوري معضلة صحة التمثيل في اجترار “الطائفية” و “إلغائها” و “خارج القيد الطائفي”… هروباً من المعايير والخبرة العالمية واللبنانية بالذات.
1. ما معنى صحة التمثيل؟ يمكن اختزال مضمون الطعون الانتخابية التي تعرض على العدالة الدستورية في ضرورة التقيّد بمبدأ صحة التمثيل représentation. يتوجّب على أي نظام انتخابي ضمان تمثيل المناطق والتيارات الحزبية والاقتصادية والمهنية والاجتماعية والثقافية أيضاً، بما فيها تعددية الانتماءات الدينية والإتنية والعرقية واللغوية… ورد في الدستور اللبناني المعدّل سنة 1990: “وضع قانون انتخاب خارج القيد الطائفي” (المادة 24)، واقتراح إنشاء “مجلس شيوخ”، وانتخاب على “أساس وطني لا طائفي” (المادة 27)، واعتماد المناصفة (المادة 24)، ولكن مع الحرص على تكليف هيئة متخصصة “لوضع خطة” (المادة 95).
تتخطى النظرية الدستورية المعاصرة أيديولوجيا يعقوبية سائدة منذ الثورة الفرنسية تعتبر الشعب وحدة يجمعها عقد اجتماعي مشترك يعلو على الانتماءات الأولية. لا تخلو هذه الأيديولوجيا من الصوابية. ليس من الضرورة إطلاقاً تخصيص مواقع في الانتخابات لجماعات دينية وثقافية في مجتمعات انتظمت في حياتها التمثيلية على قواعد في تاريخها كما في فرنسا والعديد من البلدان الأوروبية والأميركية.
لكنه في حالات عديدة عالمياً، وفي بعض المجتمعات العربية بالذات، قد يحمل النظام الانتخابي مخاطر العزل الدائم لبعض مكوّنات المجتمع. في مصر رفض الأقباط تخصيصهم بمقاعد نيابية، لكنه في كل انتخاب لا ينجح إلّا نائب واحد أو اثنان في الانتخابات التشريعية! يُشكل الأقباط حوالى سبعة ملايين نسمة! يبيّن تراكم الخبرة العالمية في الانتخابات استحالة صحة التمثيل إذا كانت المجموعات الثقافية متوزّعة مناطقياً. تعتمد بلدان عديدة تخصيص مقاعد في سبيل صحة التمثيل:
Hanna Petkin, The concept of representation, Berkeley and Los Angeles, University of California, Press, 1967.
2. عراقة الاختبار اللبناني في البلديات والنقابات: يتطلّب طرح صحة التمثيل في ما يتعلّق بانتخابات بلدية بيروت (نداء الوطن، 12/3/2025) مراجعة بالعمق لسجالات سائدة حول “الطائفية” تفتقر إلى المنهجية والمعايير الديمقراطية. لا يتضمّن قانون البلديات في لبنان أي تخصيص، بل يظهر الحرص على صحة التمثيل في كل تاريخ لبنان في مجمل الانتخابات البلدية والهيئات المهنية. يثبت ذلك مدى التقدّم في المجتمع اللبناني والذي يتبيّن في عدة مؤلفات تطبيقية:
Riad Younes, Politik und proporzsystem in einer südlibanesischen dorfgeimeinschaft (Eine empirisch sozio-politische undersuchung), Weltforum Verlag, Munchen, 1975, 280 p.
Theodor Hanf, “Homo Oeconomics-Homo Communitaris: Crosscutting loyalties in a Deeply Divided Society: The Case of Trade Unions in Lebanon”, ap. Milton J. Fsman and Itamar Rabinovich (ed.), Ethnicity, Pluralism and the State in the Middle East, Ithaca and London, Cornell University, 1986, pp. 173-185.
A. Messarra, Le principe majoritaire et le principe de proportionnalité (Théorie et application : Le cas du Liban), travaux des étudiants de 3e année de Science politique, USJ, 1980-1982, Fondation libanaise pour la paix civile permanente, série « Documents », no 78, 2 vol., 445 et 230 p. (Bibliothèque de la Faculté de Droit, USJ).
3. الانتخابات النيابية والتعبئة الفئوية والصراع على السلطة: ما يجمع البلديات والحياة النقابية في لبنان مصالح حياتية يومية مشتركة. أمّا الانتخابات النيابية فهي تختلف من حيث التنافس على السلطة والنفوذ وتحمل كل مخاطر التعبئة الفئوية. تفتقر ذهنية سائدة حول “الطائفية”، حتى في أوساط جامعية، إلى المنهجية على الرغم من غنى الاختبار اللبناني من منظور عالمي ومقارن.
من يدعي الاختصاص في العلم الدستوري اللبناني، من دون اطلاعه على الأبحاث العالمية والمقارنة والتطبيقية بخاصة منذ سبعينات القرن الماضي والمعايير الناظمة، يطلق شعارات وآراء! مثقفون من دون خبرة وأيديولوجيون ومخادعون يوفرون صك براءة لسياسيين يكرّرون مقولة: طالما أن النظام طائفي نريد حصتنا! ليست قضية حصص! المادة 95 من الدستور هي ثمرة عباقرة في اقتراحها “هيئة متخصصة” للبحث والمعالجة.
*عضو المجلس الدستوري، 2009-2019