انفجار 4 آب الذي هزّ بيروت وصلت أصداؤه إلى كلّ أصقاع الأرض. حكومات دولية وبلديات محلّية وخارجية هبّت للمساعدة والعمل لمعالجة تداعيات الانفجار… إلّا بلدية بيروت التي ظلّت تعمل كـ«المعتاد»: لا استنفار ولا إغاثة ولا خطّة طوارئ. كلّ ما فعلته هو الإعلان عن صرف 30 مليار ليرة للمتضرّرين. وبعد أكثر من شهر، لم تصل المساعدات – على ضآلتها – إلى مستحقّيها لأن البلدية أرادت تمريرها بـ«التراضي»!
30 مليار ليرة هو المبلغ الذي رصده مجلس بلدية بيروت في اليوم الذي تلى انفجار المرفأ، «كمبلغ أوليّ لإغاثة المواطنين»، على ما قال يومها رئيس المجلس جمال عيتاني. شهر مرّ على هذا القرار الذي لم يسلك طريقه إلى التنفيذ، رغم أن حالة الطوارئ كانت تستدعي صرف المبلغ مباشرة، لا سيما أنّ لا مساعدات خارجية مباشرة وصلت إلى الدولة لإعادة الإعمار. رغم ذلك، تتصرف بلدية بيروت منذ لحظة وقوع الانفجار وكأنها بلدية مدينة مجاورة للعاصمة، بل إن البلديات المجاورة قدّمت مساعدات للمتضررين وكان لها حضور على الأرض أكثر مما كان للبلدية نفسها. الإهمال واللامسؤولية غير مبرّرين، فميزانية بلدية بيروت في مصرف لبنان تبلغ نحو 900 مليار ليرة، ومبلغ الـ 30 ملياراً ضئيل جداً قياساً لحجم الدمار. ولأن الكارثة وقعت في نطاق المدينة، فإنّ من صلب مهام البلدية في حالة مماثلة إسعاف المواطنين وإيواؤهم والمساعدة في إعادتهم إلى منازلهم. عليه، كان يُفترض أن يكون المبنى البلدي خليّة لا تهدأ ليلاً ونهاراً، وتستنفر كل أجهزتها وقدراتها لمساعدة المتضررين. غير أنها اكتفت بـ«استضافة» غرفة الطوارئ المتقدّمة التي أنشأها الجيش للإغاثة والتنسيق مع الجمعيات، وكفى الله البلدية «شرّ العمل».
في قاموس المجلس البلدي، لكل إخفاق تبرير. تقول مصادر في المجلس إن البلدية حاولت «جاهدة» صرف المساعدة، وقررت «حفاظاً على الشفافية توزيع الثلاثين ملياراً على 10 متعهدين تسمّيهم نقابة المقاولين بنفسها ليتولّوا تدعيم الأبنية الآيلة للسقوط. إلا أن رئيس ديوان المحاسبة رفض طلبها إعداد عقود بالتراضي لهذه الغاية». إذاً، حتى في عزّ الأزمة يأبى رئيس البلدية جمال عيتاني وأعضاء المجلس تغيير ذهنية العمل الخاطئة والمخالفة للقانون. سريعاً ترمى التهم على الديوان، فالبلدية أرادت المساهمة في عملية إعادة الإعمار إلا أن «المسار القانوني» منعها! وحجة المجلس في ذلك أن إعداد مناقصة أو استدراج عروض يتطلب نحو ستة أشهر، وهو «ترف لا نملكه». وهذه حجة قديمة يستعملها المجلس في كل صفقة. إنما الواقع يُكذّب هذا الادّعاء، فبحسب مصادر الديوان، «القانون بنفسه يتيح تقصير المُهل والتواريخ، ولو انطلقت البلدية منذ شهر لإعداد المناقصة بدلَ محاولة تمرير عقود بالتراضي، لكانت أنجزت الأمر اليوم». لكن المجلس البلدي فضّل تغيير «الاستراتيجية» وإدانة نفسه بنفسه. فغداة رفض الديوان ومحافظ بيروت مروان عبود السير بعكس القانون، تقرر إعداد مناقصة بدفتر شروط يحدّد أسعار المواد المستخدمة في البناء مسبقاً. والأهم، تقصير المهل لأن الظرف طارئ. والسؤال هنا: لماذا انتظرت البلدية شهراً لتقتنع بضرورة اعتماد «الشفافية» في أي قرار، وهل كانت تعوّل على إمكانية غضّ الديوان النظر عن مخالفتها نظراً للدمار الهائل الذي لحق ببيروت؟ ثم كيف لهذا المجلس أن يدّعي الشفافية عبر اللجوء إلى نقابة المقاولين لاختيار 10 متعهدين يتقاسمون الغلة في ما بينهم، وما الذي يمنع أن يكون الأمر عبارة عن مسرحية فاشلة؟ الأكيد هنا، أن البلدية التي سبق أن صرفت المليارات على جمعيات ونشاطات وهمية وصفقات مضخّمة، لا يتوقع منها سلوك أفضل. على أن المجلس أقرّ أخيراً 10 مليارات أخرى من أجل تصليح واجهات الأبنية المتضررة، وسيجري طرح دفترَي الشروط للمبلغَين المرصودَين في الجلسة المقبلة.
ثمة فضيحة أخرى كشفها انفجار 4 آب، تتعلق بعدم امتلاك بلدية كبيرة بحجم بلدية بيروت أيّ آليات أو معدات لاستخدامها عند الحاجة وفي الأعمال الروتينية. لذلك تعذّر على المجلس البلدي المشاركة في رفع الردم من الشوارع، لأن المجالس البلدية المتعاقبة والمحافظين المتعاقبين، منذ انتهاء الحرب الأهلية، لم يروا في ذلك أولوية تتقدم التزيين والقرى الميلادية والرمضانية، مما حال دون امتلاك مدينة بيروت جرّافة واحدة ولا حتى آلية لريّ الوسطيات. وجرى الاستعاضة عن ذلك بعقود تلزيم الريّ لشركة بمبالغ مرتفعة شهرياً. ويمكن قياس باقي الأعمال الروتينية على هذا الأساس. هذا الفساد المتعمّد وضع البلدية تحت رحمة المقاولين الذين استدعتهم أخيراً بـ«الأملية» لمساعدتها في تنظيف الشوارع ورفع الأنقاض. إلّا أنّ من امتصوا على مدى سنوات أموال الساكنين في بيروت، رفضوا وضع شارة البلدية على آلياتهم، مستغلّين الظرف للتسويق لأنفسهم «إنسانياً».