لم تعُد حملة «بيروت مدينتي» خافية على متابعي «السوشيال ميديا». هي أصلاً ولدت في فضاء افتراضي٬ ومن رحم جيل يكاد يكون غير معني بالسياسة بمعناها الحركي على الأرض. فبعض هذا الجيل انضوى في «الاستابلشمنت» الطائفي الذي ما انفك يعيد إنتاج نفسه منذ ولادة الكيان اللبناني ولاحقاً نهاية حربه الأهلية٬ فتقوقع في جيب «الزعيم» وأصبح مسماراً٬ شأنه شأن آلاف آخرين٬ في آلات زبائنية ضخمة يعلوها ورثة حرب وإقطاع ورؤوس أموال. وبعضه الآخر آثر الحفاظ على علاقة «تقنية» ببلاده٬ يلجأ بنتيجتها إلى الآلات المذكورة اضطراراً٬ أو قناعة٬ علماً أن لا فرق في النتيجة. أما بعضه الثالث فإما يعيش على الهامش٬ أو أنه خلق لنفسه فقاعة خاصة قابلة للحياة٬ لكن غير قادرة على التأثير الجدي٬ أو خرج تماماً من الفقاعة الأكبر٬ أي لبنان٬ إلى مغترب لا يرتبط عضوياً بعلاقات الريع ومساربها الاقتصادية والمعيشية.
لكن هذا الجيل الذي ولدت منه حملة «بيروت مدينتي» للانتخابات البلدية المرتقبة الشهر المقبل٬ يشهد تحولات سبق أن عاش جيل سابق له مخاضاً مماثلاً لها من دون أن يثمر. فقد برز نهاية تسعينيات القرن الماضي حراكٌ وظّف تقنياته الشبابية الخاصة آنذاك للدفع في اتجاه تنظيم انتخابات بلدية٬ كانت قد توقفت لنحو ربع قرن نتيجة الحرب الأهلية. طمحت الحملة وقتها إلى تقديم العمل العام كشأن يمسّ الحياة الخاصة للأفراد وينعكس على يومياتهم٬ وإلى قراءة السياسة من منظار أكثر التصاقاً بحاجات المجتمع المباشرة٬ وأقل ارتباطاً بالدوغما السائدة٬ أي تلك الخاصة بالعناوين الخلاصية الكبرى (وإن كان لبعض هذه العناوين٬ كتحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال٬ وإعادة إنتاج شكل مختلف من العلاقات السورية – اللبنانية٬ مبرراتها البديهية التي لا يفترض أن تتعارض مع الأولى). النتيجة يومها كانت تنظيم الانتخابات البلدية٬ ثم هضمها في بطن النظام السياسي الفاسد بدل تغييره على دفعات.
اليوم تخرج حملة «بيروت مدينتي» من حاجة مشابهة٬ هذه المرة لاختراق الحصون التي تخندق خلفها كمٌّ من اللبنانيين مقابل كمّ آخر تبعاً لخطوط مواجهة إقليمية حادة٬ بدأت تعبّر عن نفسها بوضوح منذ غزو العراق العام 2003 ثم اغتيال الحريري العام 2005 وحرب تموز العام 2006. لكن الفارق اليوم أنها٬ إذ تعيد طرح العناوين المسكوت عنها في الحياة السياسية «الداخلية» المهترئة٬ تأتي بعدما وصل قطار «اتفاق الطائف» ونخبته السياسية النافذة إلى قاع تجاوز سوابقه.
لقد أعادت النفايات٬ التي تمثل هذا القاع حرفياً٬ المسائل الضامرة في الحياة السياسية إلى الواجهة: فتآكلُ الفضاء العام في العاصمة ليس تفصيلاً قابلاً للتجاوز. والقضايا البيئية بداهة لم تعد قابلة للطمر٬ ولا الحاجة إلى وسائل نقل عام ممكن إغفالها٬ ولا الواجهات البحرية المنهوبة يمكن تسييجها٬ ولا الموات الثقافي بالمقدور تعويضه بناطحات إسمنتية تحتقر الأفق…
«بيروت مدينتي» تجربة لها حيثياتها المختلفة عما سبقها من تجارب٬ والظروف الموضوعية تعينها على تقديم ما لديها بشكل مختلف. وهي وإن كانت أنشط في الفضاء الافتراضي منها على الأرض٬ إلا أنها تحاول رسم أفق أكثر رحابة بذهنية تختلف عن السائد.
وباستثناء الحملة البلدية للوزير السابق٬ الإصلاحي العنيد شربل نحاس٬ والتي تستحق عرضاً خاصاً٬ فالبديل عن السعي إلى تسييس «الحراك» هذا٬ ولو من المدخل البلدي الصغير٬ هو عاصمة تتحكم بها عقلية ترى أن بيروت تدين للطبقة الحاكمة بالكثير: هي «مدينة» لها بـ «سوليدير»٬ وبمبانٍ خالية من السكان٬ وبإسفلت رمادي٬ وبسماء لا لون لها.