المجاعات السياسية السلطوية اللبنانية المتعاقبة والمتداولة بين كافة المكونات تسببت في القتل والدمار، وهجرت الكفاءات اللبنانية من كافة المجالات، وهجرت الاستثمارات وابادت المدخرات المصرفية، و العنف السلطوي اشاع الخوف والريبة والانكفاء وتعاظم حالات الجفاف الفكري والانساني والسياسي وتعطيل الحوار الوطني وكل اشكال الانسياب المجتمعي الطبيعي .
المجاعة السياسية السلطوية اعادت ثقافة خطوط التماس بين مكونات البرلمان الحالي الذي انتخب منذ اكثر من عامين وعجز عن انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة طبيعية، وانتخابات المجالس البلدية، والتعيينات الادارية والمالية والعسكرية والامنية والدبلوماسية رغم المخاطر الحربية، والمجاعة السياسية السلطوية جوفت الاعلام اللبناني من ميزاته الوطنية الجامعة والتاريخية في استشراف التحولات الوطنية والعربية والاقليمية والعالمية، وما نشهده اليوم عبر شاشات ومواقع الكراهية والخصومات يجعلنا نحزن على الحريات السياسية والاعلامية التي كانت احدى اهم ميزات لبنان التاريخية.
المجاعة السياسية السلطوية لا تزال تمعن في تقطيع كل سبل التواصل والتفاعل بين الافراد والمجموعات، والهوية الوطنية الجامعة تشهد حالة ضمور وتلاشي نتيجة الخوف والريبة بين الاخوة الشركاء، والمجاعة السياسية السلطوية الحالية ليست بين المناطق والطوائف فقط بل هي داخل كل طائفة وكل حزب وكل مذهب ومنطقة وعائلة، والجوع السلطوي حوّل معظم الشخصيات اللبنانية الى وحوش مفترسة في الغابات السياسية اللبنانية.
دولة لبنان الكبير تأسست على ايدي الكبار الذين عايشوا ويلات المجاعة الاولى في لبنان (١٩١٥-١٩١٨) والتي قضت على نصف سكان لبنان، وتلك القامات الكبيرة ادركت ان الاوطان والمجتمعات تقوم على التكامل والشراكات الانسانية والفكرية والسياسية والوطنية، واعلان لبنان الكبير في (الاول من ايلول ١٩٢٠ ) جاء بمثابة اعتراف بارجحية نموذج بيروت المدينة قصة النجاح الوطني الوحيدة في تاريخ لبنان، حيث تقبل اهالي بيروت المدينة التنوع الفكري والثقافي والديني والمذهبي والمناطقي والتعليمي والاعلامي والارساليات المتنوعة والمتنافسة، والمقاومة البيروتية المدنية شكلت النموذج الامثل لتكوين ارادة وطنية جامعة والشروع في بناء الدولة الوطنية كوحدة قانونية مجتمعية، والمقاومة البيروتية الوطنية واجهت كل حالات التوحش والمجاعات السلطوية التي تناوبت كل المكونات السلطوية على الابتلاء بجنونها وجرائمها بحق بيروت الوطن والمواطن في كل لبنان.
المقاومة البيروتية الوطنية نجحت في الالتفاف حول الارادة الوطنية وقيادة اعادة بناء ما تهدم واستعادة الانتظام العام واستعادة الثقة بثقافة الحوار وفتح اهالي بيروت القلوب والبيوت والاسواق لكل مكونات لبنان، ونجاحات عملية نهوض بيروت الحديثة ابهرت القاصي والداني بالتقدم والازدهار والانجازات، وعادت بيروت مدينة الابناء والاشقاء والاصدقاء وعادت دورة الحياة الى البرلمان والحكومات، واستعادت الدولة الوطنية هيبتها ومؤسساتها ومكانتها في وعي الاجيال وبعثت الطمأنينة في قلوب كل ابناء لبنان،
بيروت المدنية لا تزال حتى الان الحاضن الوحيد لفكرة لبنان الشراكة الوطنية، والمقاومة البيروتية المدنية وحدها القادرة على اعادة وصل ما انقطع بين كل المكونات والمناطق اللبنانية، وستبقى المقاومة البيروتية واهلها الكرماء يشكلون الضمانة الوحيدة في مواجهة المجاعة السياسية السلطوية في لبنان، وكل الكتّاب والنخب السياسية والاعلامية المدنية الذين يتنعمون في بيروت المدينة بالحريات السياسية والمدنية والفردية بعيدا عن قهر رموز المجاعة السياسية السلطوية والعنف والطائفي والمناطقي، ان كل هؤلاء مدعوون اليوم الى تسديد ديونهم تجاه بيروت المدينة واهلها الكرام ورفع شعار:”شكراً شكراً اهالي بيروت الكرام” .