IMLebanon

بيروت المقهورة… ما بين آذار 1984 وآذار 2024

 

 

عند تفحّصك لغرابة عمق الأسى والمظلوميّة في عيون أحد أبناء بيروت الصامت، يفضفض لك أخيراً بعد اطمئنانه إليك عن قهره الدفين المتعلق بخسارته لعاصمة دولة فقدت معالمها، وجرح يتعمّق يوماً بعد يوم في كيانيته النازفة، ويفتح لك أخيراً ملفات تراكمات تتجاوز 7 أيار 2008 أي إجتياح الميليشيات لبيروت و14 شباط 2005 اغتيال الرئيس الحريري، ويتكلم معك عن مأساة صبيحة 21 آذار 1984 التي أخلت بكل التوازنات التي كانت تحافظ على المدينة بإنتظار أن تأخذ الدولة مكانها. ليخبرك انه في هذا اليوم دخل عناصر أحد الأحزاب الى مكاتب حلفائهم المرابطون وغدروا بهم برفع السلاح عليهم واحتلال مقراتهم، ليتابع تنظيم آخر مرتبط بنفس الأجندة الإقليميّة بالإستيلاء على ممتلكات التنظيم البيروتي وإذاعته المسموعة والمرئيّة، ومقرات مع ممتلكات حركة فتح وجمعياتهم ومحطات الوقود والمؤسسات و… ونزع ملكيتها بطرق مختلفة ليتبيّن لاحقًا أن هذه اللعبة كانت من ضمن خطة متكاملة للسيطرة على كل مقومات الدولة، ولفتح طريق حرب المخيمات المعروفة 1985-1986 وقطع الطريق أمام من سيرفضها من اللبنانيين. كما يتحدث معك عن «تجريد رئيس بلديّة بيروت» من صلاحياته التنفيذيّة أواخر الستينات من قبل أحد زعماء الإحتكار السياسي الذي سعى للقضاء على تجدّد القيادات البيروتية من خلال هذا المركز، ويتكلم أيضاً عن استشهاد صبحي الصالح وحسن خالد ويكون ملخص «فضفضته» بأن بيروت العظيمة التي انتصرت على الجيش الإسرائيلي قُهِرت وما زالت تُقهر من قبل أطراف داخليّة استكملوا بشكل او بآخر مهمة أعداء الوطن بعناوين خادعة وبأن مشهد صبيحة 21 آذار 1984 بميليشياته المعروفة هو المسيطر حالياً على بيروت ولكن بشكل أوسع وأكثر عمقاً واتساعاً!

فلماذا ووفق رأيه يُقضى على تنظيم كان يحفظ توازن غياب الدولة؟ وبالنتيجة يفقد هو تنظيمه ومرجعيته الروحيّة وبلديته وأسواقه التجاريّة ودولته وكيانية اجتماعيّة كان ينتمي إليها تحتضن كل اللبنانيين بمختلف طوائفهم ومناطقهم؟ ليتحوّل بعدها الى «كريم مُهان» مستجدي عند زعران ميليشيات يسيطرون على الأملاك والشط البحري و.. ومحتكري مولدات الكهرباء والأنترنت والستالايت و… وسحرة مفاتيح حل كل المعاملات الرسميّة وتعقيداتها، وكلنا يعرف المثل الشائع الذي يقول: «كن على حذر من الكريم إذا أهنته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن اللئيم إذا أكرمته»… فلماذا عليّ فقط أنا البيروتي الآدمي الملتزم بالقانون أن أتجاوز قهري هذا؟؟

 

مواجهتي لهذا الواقع و«بق البحصة» أمامي واستحضار هذا الكم من التراكمات أذهلني!! فهل يمكن لأهل عاصمة قهرت الإحتلال الإسرائيلي أن تجد نفسها تعاني من احتلال سلطات ميليشيات لا تؤمن بأي قيم بل هي تعتاش على تدمير كل مقومات مشروع الدولة العادلة والحضاريّة التي ضحّى بالغالي والنفيس أبناء بيروت وكل الوطن من أقصاه الى أقصاه من أجل إعلاء شأنها؟

وهل من الممكن تجاوز قناعات هذا المواطن البسيط بأن مشروع الدولة أصبح بعيد المنال وأن البديل الواقعي هو التعامل وفق أخلاقيّة ونمط بلطجة الميليشيات المسيطرة؟

وهل تسمح كيانيّة أصحاب ابن عائلة فلان المعروفة والآدمي، ومن يخاف الله، وعامل الخير بالسر وصاحب الشهامة والمروءة، ولأبناء مدينة، تظاهرات لدعم القضيّة الفلسطينيّة والعربية والعدالة في كل المعمورة وصولًا لدعم المناضل «لومومبا في الكونغو» الأفريقيّة أن يَنجَر الى الإنتقال الى التبعيّة في هذه التركيبة المنحرفة التي تتجذر يوماً بعد يوم؟ ليصبح ما عداها شواذاً!!!

 

وهل يسمح لبيئة منطلقة من إيمان «مذهب الأمة» والفكر الوسطي ومرجعيّة إيمان وفكر ومنهج الإمام الأوزاعي بالعيش المشترك والتحاور… أن تتبنّى عقليّة زعران الأزقة وشطارتهم بقلّة الأخلاق.

بالطبع فإن هذا القهر البيروتي هو قهر لكل اللبنانيين بمختلف طوائفهم والكل في قرارة نفسه يعرف تماماً أن هذا القهر محق وأنه آن الأوان لإعادة بناء دولة المؤسسات بدلاً من شعوذة آذار 1984 القائمة، من مرفأ ومطار ونظام مصرفي ومالي والنمط التنظيمي الحضاري الفاعل لبلديّة بيروت ليستعيد رئيس البلديّة صلاحياته التنفيذيّة الطبيعيّة كما باقي البلديات، ولنشاهد في شوارع بيروت وكما هو حال كل البلديات المحيطة شرطة بلديّة بدلاً من زعران وزعماء الأزقة، وتستعيد الأوقاف مكانتها، وتأخذ جمعية المقاصد مع باقي الجمعيات الثقة من جديد بالتواصل مع أهل بيروت والمناطق وفق رؤية وقيم المؤسسين، وتأخذ الجامعات، المدارس، المعاهد، النوادي الرياضيّة والمسارح وحلقات الذكر والصوفيّة والمقاهي وكل مرتكزات التنوع المدني مكانته في عاصمتنا التي أحبها يوماً ما الغريب والقريب وسعى الحكماء منهم لبناء نموذج مشابه لها…

فبيروت وبلديتها ومكوناتها المدنيّة ليست إستثناء وليست برهينة تقاسم محاصصة سلطة زعران الحرب في مرحلة السلم، ومشروع بيروت وأهلها هو مشروع الدولة العادلة.

ببساطة، انه يا سادة مشروع الدولة الدستوريّة بكل مقوماته الذي يعالج «قهر أبناء بيروت العميق» وقهر كل لبناني صامت ويعض على جراحه البليغة مستجدي تصدير أبنائه الى الخارج. فبدل أن نتحوّل كلنا «كما يستنتج المواطن البسيط» الى سلطة محاصصة ميليشيات الحرب التي قتلت الدولة بعد تدمير مقوماتها، آن أوان دفن هذه السلطة القذرة واستعادة دولة المواطن الكريم وعاصمته لمكانتها وفتح الباب أمامه للخروج من قهره المزمن المحق، وهو صاحب القلب الطيب الذي يفتش عن الخلاص لا عن الإنتقام وسيتلاقى حتماً مع من يشبهونه وهم كثر في كل الطوائف والمناطق وعلى مساحة الوطن.

… ولتعود بيروت سيدة العواصم ولؤلؤة الشرق وقلب لبنان النابض بالحياة والمحبة والازدهار.