يستحق البيارتة منّا وقفة تأمّل وتمعّن وتعمق في منظومة قيم التسامح الناظمة لعلاقاتهم فيما بينهم، والتي استطاعت أن تحفظ نسيجهم الإنساني الناعم والقوي والمستقر على مدى عقود طويلة، رغم هول ما تحمّله البيارتة من موجات نزوح الريفيين الى مدينتهم حاملين معهم قيمهم الحادة والقاسية وعصبيّتهم وغضبهم وطموحهم وفورتهم وثورتهم. فاستوعبهم البيارتة داخل شرانق مدينتهم بنعومة خيوط الحرير وصلابتها.
لا نبذل نحن الوافدون على البيارتة أي جهد للتعرّف عليهم وعلى خصائصهم، لأنّنا جميعاً تَرَكنا مدننا وأريافنا وقدمنا الى بيروت بحثاً عن ذاتنا المفقودة، ويمكن ان نبقى عشرات السنين في هذه المدينة دون أن نتعرّف على البيارتة ونسيجهم العريق والعميق. وخلال الثلاثين سنة الأولى من وجودي في بيروت لم أكن أعرف من البيارتة ما يزيد عن عدد أصابع اليدين، وقد كان نهاد الصديق البيروتي الوحيد،.ولم أتعرف على ذلك النسيج الإنساني المذهل إلاّ خلال السنوات العشر الأخيرة.
البيارتة لا يشبهون ما نراه على شاشات التلفزيونات، أو ما نقرأه على صفحات الصحف، ولا يعبر عنهم هذا السخط أو ذاك الصراخ، فهم يميلون الى الهمس والايحاء والصوت الهادىء، ولا يحبّون الضجيج والضوضاء، ويحفظون صلات الرحم وحبال الودّ والوصال بعناية وروية ومن دون انفعال. ورفضوا كلّ حالات العنف في بيئتهم.
البيارتة يشبهون بعضهم بعضاً، أخلاقاً وسلوكاً، ويعرفون ما هو محرّم وما هو مباح. وأولويّاتهم واحدة الى حدّ بعيد، فهي العلم والعمل والنجاح والاستقرار والأسرة والأبناء والأحفاد، وكذلك الأمّهات والآباء والجدّات والأجداد، كلّها من أولويّات البيارتة. ووطنية البيارتة من بديهياتهم وليست إضافة أو استثناء كباقي الوطنيات. البيارتة نسيج من القيم والخصوصيات المتراكمة والمتكافلة أجيالاً بعد أجيال.
البيارتة ليسوا ملائكة لكنّهم تقاة، وربّما يكون شهر رمضان المبارك هو شهر البيارتة بامتياز. رمضان البيارتة أشبه بالجمعية العمومية أو المؤتمر العام، بحيث يلتقي فيه الجميع بالجميع، ويتواعدون ويتعاتبون، ويراجعون حسابات الربح والخسارة في الحياة والأعمال، ويؤدّون فريضة الزكاة بطواعية وسخاء، ويشاركون في الإفطارات على مدى الشهر، وربما أكثر من إفطار في المساء الواحد. وسحورات البيارتة تلمّ شملهم، مسلمين ومسيحيين، ونساء ورجالاً، وبيارتة وغير بيارتة، من دون تمييز أو تمايز.
ليلة الانفجار الأخير في فردان كنت أتنعّم بإفطار في بيت الأعزاء نجوى وصلاح وسامي ومعهم نادين وماجد وولديهما، حين انشغل الجميع بالاطمئنان عن الجميع. والسبت الماضي تشرّفت بتلبية دعوة الأصدقاء أمل ومحيي الدين لإفطار شابات وشباب «مجموعة إرادة» وبرعاية كريمة من سماحة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، وقد سررت بلقاء رؤساء اتحاد عائلات البيارتة الأعزاء الأستاذ محمد أمين والحاج رياض والدكتور فوزي وكذلك الأصدقاء الدكتور باسل والدكتور سامر والأعزاء عبد الله ووليد ومحمد والمقاصدي الأستاذ أمين والصديق صلاح. وبعد تأمّل طويل في ذلك النّسيج المتناغم والمتماسك والإنسيابي والهادئ، لا بدّ من الاعتراف أن سماحة البيارتة المدنية هي روح الوحدة الوطنية.