وفق قاموس الممانعة، تعني المصطلحات عكس ما يُفترض أن تعنيه. الأمر بات يتّخذ شكلاً هزليّاً في الكلام السائر، خصوصاً مع مصطلحي نصر وهزيمة. التطوّرات والمستجدّات تُغني هذه الهزليّة وتسمّنها. كيف ذلك؟
قبل أيّام قليلة على حلول الذكرى الأولى لتفجير مرفأ بيروت، كتبت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيليّة (22 تمّوز/ يوليو 2021) أن إسرائيل ستفتتح في حيفا ميناء جديداً يوم 1 أيلول (سبتمبر) المقبل. الصحيفة تنقل عن مدير شركة المرافئ أنّ افتتاحه «سوف يثوّر الاقتصاد بكامله. إنّه الميناء الأكثر جدّة في العالم مصحوباً بآخر تقنيّات المرافئ». حبيبة قلبنا، الصين، هي التي ستتولّى تشغيل المرفأ الجديد وإدارته لمدّة 25 عاماً من خلال شركتها «مجموعة الموانئ العالميّة لشانغهاي».
ميناء حيفا الجديد، الذي يجاور ميناءها القديم، سيمهّد أيضاً لميناء آخر يُبنى في أشدود يُفترض إتمامه أواخر العام الجاري. لكنْ إلى ذلك، سوف تخضع الموانئ الثلاثة القديمة، في حيفا وأشدود وإيلات، لورشات تحديث تجعل منها «عنصراً مهمّاً في اقتصاد إسرائيل».
المقارنة مؤلمة بما فيه الكفاية. صفعة على وجوهنا بعد صفعة بعد صفعة… ما يزيد المقارنة إيلاماً أنّ يأتي الإعلان عن هذا المرفأ الجديد فيما نحن ننتظر شيئاً آخر: أن نقطف ثمار النصر الذي قيل أنّ «حركة حماس» قد حقّقته مؤخراً. وللتذكير، فمنذ 21 أيّار (مايو) الماضي، حين أُعلن وقف إطلاق النار الذي أنهى حرب غزّة الأخيرة، والأصوات الممانِعة المعهودة توالي الصداح: إنّه النصر. النصر التاريخيّ. زوال إسرائيل وراء أوّل أكمة. القدس أقرب إلينا من أيّ وقت سابق…
لقد ظللنا منتصرين صوتيّاً مدّة شهر كامل. لقد «أذللنا إسرائيل». لقد فعلناها للمرّة الثانية في غضون 15 عاماً، إذ أنّنا، وكما تذكرون، سبق لنا أن «أذللناها» في 2006. يومذاك جاء النصر من عيار إلهيّ.
على أنّ شهراً واحداً كان كافياً كي يتراجع الكلام عن النصر. التراجع ما لبث أن صار نسياناً. لقد نسينا النصر الذي حقّقناه. لقد تبخّر النصر كلّيّاً وبات مثل إبرة في جبل من قشّ. انشغالنا تحوّل عنه لينصبّ على أمور أخرى أحدها الضربات الإسرائيليّة فوق الأراضي السوريّة. الصحافيّ الإسرائيليّ أموس هارِل كتب في «هآرتس» عن تقارير تقول إنّ إسرائيل، في الأسبوع الماضي، نفّذت ثلاث ضربات جويّة في سوريّا الوسطى والشماليّة. هذه الضربات كلّها جاءت قريبة نسبيّاً من مواقع عسكريّة روسيّة. حبيبة قلبنا الأخرى، روسيّا، ردّت بالقلق الذي أبدتْه، ومن هذا القبيل أعلنت أنّها «عرقلت» ضربة إسرائيليّة في سوريّا.
أيضاً، وفيما نحن ننتظر قطف ثمار النصر التاريخيّ، أُعلن أنّ طائرات استطلاع حربيّة إسرائيليّة نفّذت غارة على موقع لـ «حماس» شرقيّ خان يونس، جنوب قطاع غزّة.
«حماس» بدورها، ومعها «الفصائل»، هبطت من سويّة الحرب ونصرها الملحميّ إلى سويّة العمل الذي يشبه التفاوض النقابيّ. صحيفة «الأخبار» اللبنانيّة كتبت بالحرف: «بعد هدوء نسبي خلال أيّام عيد الأضحى، اتّخذت فصائل المقاومة الفلسطينية قراراً بإعادة تسليط الضغوط على العدو الإسرائيلي على طول حدود قطاع غزة، وذلك للدفْع قُدُماً بالمباحثات الجارية حول الملفّات المتعلّقة بالقطاع، وخصوصاً الوضعين الإنساني والاقتصادي. وخلال اليومين الماضيين، رُصدت عمليات إطلاق بالونات حارقة شمال القطاع ووسطه، فيما لم تتحدّث وسائل الإعلام العبرية عن أضرار أو حرائق جرّاء هذه العمليات. وعلمت «الأخبار»، من مصادر فلسطينية، أن الفصائل تتّجه خلال الأيام المقبلة نحو تصعيد تدريجي مع الاحتلال، سيبدأ بإطلاق البالونات المتفجّرة، فيما تدرس المقاومة تفعيل أدوات ضغط جديدة، بما فيها مسيرات على طول الحدود، ضمن فعّاليات «مسيرات العودة الكبرى» التي انطلقت منتصف عام 2017 الماضي واستمرّت قرابة عام ونصف عام.
أحدٌ لم يراجع مزاعم الشهر الأوّل بعد الحرب. ما من سلطة سياسيّة أو عسكريّة أو إعلاميّة تعرّضت للمساءلة. قيادات الممانعة لم تجد من يسألها: أين النصر؟ أين هرب؟ أين أضعتموه؟ أم أنّكم لم تحقّقوا نصراً بالأساس؟
من دون أيّة مساءلة بدأ الممانعون أنفسهم يوجّهون النصائح لرئيس حكومة العراق مصطفى الكاظمي فيما هو يزور واشنطن: انتصر كما انتصرنا، أي أزِلْ كلّ أثر للولايات المتّحدة من العراق. النتائج ستكون، والحال هذه، مضمونة: نهتف شهراً بأعلى أصواتنا للنصر الملحميّ على اليانكي ثمّ تتقاسم إيران و«داعش» العراق.
نصر لبنان الذي فُجّر مرفأه مقابل إسرائيل التي تبني مرافئها إغراء لا يستطيع الكاظمي أن يقاومه.
في هذا كلّه ثمّة شيء واحد لا بدّ من الاعتراف به: إنّه القدرة الهائلة لدى بيئة الممانعين على تغيير معنى المصطلحات وعلى تأمين جمهور يصدّق المعنى الجديد. أمّا نحن الأوفياء للمعاني القديمة فلا نشتهي لأعدائنا إلاّ أن يحقّقوا انتصارات من الصنف الذي نحقّقه.