من أقبح تداعيات جريمة تفجير مرفأ بيروت هو ذلك الإعدام العلني المكشوف للعدالة وفق تسلسل مدروس ومتدرِّج ومتصاعد أدّى إلى تقزيم هول «جريمة العصر» إلى جدل حول طبيعتها، ثمّ المساواة بين الضحية والمتّهم، وتسخير السلطة لقمع أهالي الضحايا وتخوين قاضي التحقيق والتهديد بقبعه، وإدخال المسار القانوني في أنبوب الخنق وقطع التنفّس عن العدالة وطالبيها، حتى لو أدّى ذلك إلى حرب أهلية مصغّرة… إنّه الإصرار على الجريمة.
لعلّ من «مميّزات» جريمة تفجير مرفأ بيروت أنّها أصابت كلّ لبنان بالمعنى الحرفي للكلمة، فبالإضافة إلى خسارة البيارتة، لم تبق منطقة إلاّ وخسرت من أبنائها شهيداً أو استقبلت مصاباً، لأنّ قسماً من هؤلاء كان يقصد العاصمة لالتقاط رزقه رغم ارتفاع كلفة الانتقال، وكان بعضهم يفترش أماكن ضيقة على الأجساد والقلوب ليوفّروا قدر المستطاع من المصاريف لصالح عائلاتهم في الشمال والبقاع… لهذا كان مطلب العدالة شاملاً لجميع أطياف الشعب اللبناني بلا استثناء.
يدور محور الأحداث منذ وقوع الكارثة على بيروت، بأهلها ونسيجها وعمرانها، حول قضية العدالة، وهنا مربط الفرس، بعد استنفار «حزب الله» غير المبرّر شكلاً، ضدّ من تولّى التحقيق، حيث عمل على حماية الوزراء الشيعة المتعاقبين على وزارة الأشغال العامة والنقل، والضباط، وكلّ من له موقع محسوب على الثنائي الشيعي مذهبياً أو سياسياً، الأمر الذي طرح علامة استفهام كبيرة حول سبب الحملات المباشرة التي شنّها الأمين العام للحزب بشكلٍ خاص على القاضي طارق البيطار.
عمل «حزب الله» على شقّ صفوف الأهالي بسحب بعض من يوالونه مذهبياً إلى مساحته، ليتولَّوا التشويش على الغالبية من الأهالي بإطلاق مواقف انعكاسية للتوجه السياسي للثنائي الشيعي ولإظهار صورة الانقسام بين ذوي الضحايا، لكنّها لعبة لم تُعمِّر طويلاً، لأنّ حجم المنشقّين أظهر أنّهم مجموعة محدودة وتتحرّك بأوامر وسياسات الحزب والحركة، لكنّ مهمّتها الأساسية كانت إطلاق الاتهامات بحقّ القاضي البيطار وتعزيز صورة الانقسام كشكلٍ من أشكال إعاقة العدالة.
أغرق الثنائي الشيعي وحلفاؤه التحقيق بتعطيلٍ متواصل، من خلال استغلال الإعتراضات الشكلية وذريعة كفّ اليد وطرق الاعتراض المختلفة وصولاً إلى حصار العدلية، وترجّل وفيق صفا ليقول للبيطار إنّه مهدّد بـ»القبع»، ثمّ نزل مسلّحو الثنائي لينفِّذوا «غزوة الطيونة – عين الرمانة» مهدِّدين بإشعال فتيل فتنة كان يمكنها أن تهدِّد الأمن الوطني بشكل مباشر.
في كلّ هذا المسار، تعامل الثنائي الشيعي وتفرّعاته السياسية مع جريمة تفجير المرفأ على طريقة «كاد المريب أن يقول خذوني»، فهم يتحرّكون كمن يسحبون كلّ صيحة عليهم، وكأنّهم هم المتهَمون قبل أن يُتَّهموا وكأنّهم المذنبون قبل أن يُدانوا وكأنّهم المرتكبون قبل أن يصدر القرار الظنّي، وهم بهذا السلوك يذكِّرون بموقفهم من جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، عندما أعلنوا قداسة المطلوبين للعدالة الدولية، لكنّهم رغم كلّ أشكال التواطؤ على المحكمة من داخل مؤيديها ومن أعدائها، لم يستطيعوا أن يشطبوا خلاصة الإدانة بمسؤولية القيادي في الحزب سليم عياش عن قتل الحريري.
هناك مسار طويل من الاغتيالات لا يطال سوى فريق واحد ولا يستهدف إلاّ لوناً واحداً من جميع المناطق والطوائف، وهم مقاومو ورافضو سياسات محور إيران وسوريا، بينما يتربّع هذا الفريق المدجَّج بالسلاح على عرش السيطرة الأمنية والسياسية موجِّهاً العظات في «الديمقراطية» والتنمية والحقوق وكأنّ خطباءه يأتون من المدينة الفاضلة.
خلاصة واحدة وصلت إلى اللبنانيين والعرب والعالم بعد ثلاث سنوات على جريمة قتل بيروت وضرب لبنان في عمقه الإنساني، ألا وهي الإصرارُ على الجريمة وعلى فرض مسار الخروج عن القانون وتطبيع ما تبقّى من الدولة مع هذا السلوك وفرض ثقافة الرضى بالقتل تفجيراً واغتيالاً وتجويعاً… من دون مقاومة ولا صراخ… وكأنّ المطلوب منّا أن نتأقلم مع التعرّض للقتل مع ابتسامة عريضة! وهذا خلاف الطبيعة البشرية وخلاف ما جُبِلَ عليه اللبنانيون.