رفْع 75 ألف طن ردميّات في أسبوعين
بينما ترزح بيروت حزينة، موجوعة، تحت الركام بادر شباب وشابات، من جمعيات شتى، الى البحث عن سُبل إضاءة ولو شمعة خافتة في الظلام الدامس. ثمة من بدأوا، منذ صبيحة الخامس من آب، يُفكرون كيف يجعلون من الموت حياة ومن الركام بنياناً ومن الزجاج المتناثر في كل مكان “مقومات” تشهد على التاريخ والجغرافيا والموت والحياة… ماذا يحصل الآن في بيروت؟ وهل تقرر فعلاً مصير ردميات العاصمة المنكوبة؟ وهل صحيح أن “وجع أجيال رح يعمّر جبال”؟
لا بُدّ أن يكون كُلّ من تابع مشاهد الموت والحزن، ومن تنشق رائحة الموت، ومن سمع الصراخ والبكاء والصلوات، قد فكّر بعد أن استعاد بعض رباطة الجأش، بتلال الركام المنتشر في كل مكان، ولا بُدّ أن يكون قد سأل: وماذا سيفعلون به؟ ماذا سيفعلون بأطنان الزجاج المحطم؟ هل سيرمونه في البحر أو في مطمر برج حمود أو الكوستابرافا أو الجديدة أو في المكبات العشوائية المنتشرة؟ هل سيُشكل الركام المبلل بالدماء النقية أزمة؟
لم ينس كثيرون ماذا حصل، قبل أربعة عشر عاماً، بركام الضاحية الجنوبية لبيروت، بعيد حرب تموز. ذاك الركام الذي أقرّ مجلس الوزراء آنذاك نقله الى منطقة شاطئ النورماندي، في ظلّ أفكار كثيرة للتخلص منه مرة واحدة، على أن يوضع في أي مكان، في أحد الأحواض المائية في مرفأ بيروت (المنكوب اليوم) مثلاً “لزيادة المساحة والعنابر” أو ردم مساحة بحرية في برج حمود أو في منطقة سوليدير أو في الموقع التابع لشركة إنماء وتطوير ضواحي بيروت – اليسار أو… أو… لكن انتهت تلك الردميات، في النهاية، في المطامر والمكبات. أزمة فوق أزمة.
اليوم، ثمة أزمة مضاعفة، ثمة ركام مدينة، فهل يُرمى في المطامر والمكبات؟
ثمة مبادرة بدأت تُنفذ، منذ اليوم التالي لكارثة بيروت، تنضوي فيها مؤسسات وجمعيات عدة بينها: برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان UN-Habitat ومبادرة إعادة تحريج لبنان وDevelopment Inc. فماذا في التفاصيل؟ يجيب مسؤول وحدة التخطيط والتصميم في برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان ايلي منصور “تأثرنا جميعاً بما حصل، في شكل أو في آخر، ولحظة خرجنا من هول الصدمة قررنا التدخل الإيجابي على الرغم من كل “السواد المحيط”. وحين رأينا كميات الردم والباطون والحديد والبلاستيك والزجاج والنايلون فكرنا كبيئيين بأمر ما، بخطة، بمشروع ما أو بمبادرة، كي نحول دون تحويل هذه الأزمة الإنسانية – البيئية الكارثية الى أزمة نفايات بيئية أخرى كارثية. فكرنا بتحويل كل هذا الركام الى جبال، بمعنى، أن نقوم بفرز الكميات التي جمعناها على مدى أسبوعين ومعالجتها في شكل طبيعي ونرمم بها الكسارات والمقالع، وبالتالي المساهمة في تحسين مشهدية الجبال التي هشمتها تلك المقالع والكسارات”.
محمد داوود، رئيس مجلس إدارة Development Inc. ينكب هذه الأيام، ليل نهار، على المشاركة في الحلّ “فالكارثة كبيرة وما تمخض عنها من ويلات كثير وإهمال مسألة الركام سيُشكل أزمة فوق أزمة” يضيف “أخذنا القرار في اليوم التالي للإنفجار كي لا ينتهي كل الركام في المطامر والمكبات حيث تتقاضى شركات النفايات عشرات ملايين الدولارات عن التعامل معها. قررنا أن نجعل من هذه الأزمة حلّاً. والمشكلة التي واجهتنا هي أن هذه الردميات اختلطت بمختلف انواع الزجاج، زجاج السيكوريت مع زجاج الصحون والأكواب، مع الباطون والبلاستيك وسواها، وكان ضرورياً فرز كل هذه الأكوام من أجل إعادة كل مادة الى أصلها. ومعلوم ان الزجاج يتكون من رمال تعرضت الى حرارة عالية وضغط ونحتاج أن نعيده الى رمال نرمم بها آلاف الكسارات المنتشرة في كل لبنان. نريد أن نجعل من رمال الزجاج والباطون “حشوة” تشبه “حشوة الأسنان” لنسدّ بها الفراغات التي أحدثتها المقالع والكسارات وإعادة جبال لبنان جميلة”.
هل تتصورون أننا سنقف ذات يوم أمام كسارة ومقلع ونتذكر الجميزة والكرنتينا والصيفي والرميل؟ هل تتصورون أن يقف إبن مارمخايل أمام كسارة نهر الموت، التي استعاد موقعها تكوينه، ويقول: جزء من حيطان منزلنا وذكرياتنا هنا؟
يتحدث كل من محمد داوود وايلي منصور عن كميات كبيرة استخرجت في أول أسبوعين قدرت بنحو 60 ألف طن من الباطون والردميات و15 ألف طن من الزجاج. فكيف فرزت كل هذه الكمية؟ يتحدث داوود عن الفرز وعن الحلم ويقول: “هناك 80 نوعاً من البلاستيك في العالم، ولا يمكن إعادة التعامل إلا مع سبعة أنواع، وبالتالي هناك 72 نوعاً لا يمكن إعادة معالجتها. لذا عملنا نحن على “براءة اختراع” خاصة بنا تستطيع التعامل مع كل الأنواع. واستعنا بعملية نقل الركام بأكثر من مئة شاحنة و4000 متطوع، على أن يصار الى نقل كل الردم الى موقع في الكرنتينا مساحته 5000 متر مملوك من بلدية بيروت”.
هل نفهم من هذا أن بلدية بيروت تساعد، في شكل أو في آخر، في هذا المشروع أيضاً؟
يتحدث مسؤول وحدة التخطيط والتصميم في برنامج الأمم المتحدة عن اللحمة الإجتماعية والإنسانية في هذه المرحلة ويقول “وضعت بلدية بيروت آلياتها في تصرفنا واعطتنا محافظة بيروت قطعة ارض، محاذية للمطاحن، ونحن في صدد توكيل خبراء ليجروا دراسة حول ادارة الموقع، وكيفية دخول الشاحنات وخروجها، والردميات المسموح بدخولها، وتحديد الموقع الذي سيتم تفتيت الزجاج فيه وموقع طحنه… نحن نحتاج، مع كل الشركاء، الى وضع تفاصيل كثيرة اولية ضرورية. وهناك حالياً عشرة خبراء عالميين مستعدون لوضع كل خبراتهم ومعلوماتهم من أجل إنجاح هذه المبادرة، والتمكن من اعادة ترميم كسارات ومقالع، وسيعاونهم خبراء من لبنان. الأمر يتطلب دراسات هندسية سريعة خصوصاً ان من شلعوا الجبال لم يحترموا حتى اصول عمل الكسارة او المقلع، فلم يفتتوا المواقع على شكل جلال بل جعلوا منها أشبه “بالشير”. وهذا يتطلب تثبيت الارض كي لا تحصل لاحقاً انهيارات والتأكد من مساهمة خلطة الزجاج والباطون والمواد المطحونة في تثبيت التربة.
ما رأي مديرة جمعية التحريج في لبنان مايا نعمة؟ تجيب “قبل أن يحدث انفجار بيروت كنا نعدّ دراسة تقنية حول ما يمكن أن نفعله بالركام في منطقة البقاع، لكن بعد الرابع من آب تبدلت المعطيات وبات تركيزنا على العاصمة. وبدا هذا المشروع الخيار الأفضل، فتمّ تجهيز الآليات وجمع الردميات، من دون أن نفكر لا بالكميات التي قد نستخرجها ولا بالمقلع الذي قد نبدأ مشروعنا فيه. رفعنا ركاماً يضم الزجاج والباطون والألومنيوم و”عفش البيوت” (الأثاث) والحديد والنايلون. وبدأنا أعمال الفرز ورفع المواد التي تلوث البيئة مثل النايلون والألومنيوم. وسيُصار في النهاية، بعد الإنتهاء، الى إعادة تشجير الجبال والمواقع. سنقوم بجعل “الردم يعمر جبالنا”. نحن نعمل على جمع الركام “لنعمر” Rubber to mountains”.
جميل تحويل “تلال الردم المبلل بدماء أجمل الناس الى جبال عامرة”.
نعود الى داوود الذي تحدث عن أبعد من إعادة تكوين المقالع والكسارات. يقول: “سنجعل من بعض الركام والمواد التي يُعاد تدويرها مقاعد للعامة. سنجهز العاصمة بأكثر من مئة مقعد، وستضم جنبات المقاعد حاويات أزهار وأشجار زيتون”. وهنا حول هذه النقطة يعلق منصور بالقول “يهمنا كثيراً تحويل المواد الأولية التي تمخضت عن الإنفجار الى مقاعد للعامة وفي محطات الباصات والى طاولات. يهمنا أن نحفظ الذاكرة وأن تبقى هذه المواد شاهدة على فظاعة ما حصل، علّ الأجيال المقبلة تتعلم”.
قطعة الأرض التي قدمتها محافظة بيروت لتضم كل انواع الردم واسعة شاسعة تتسع للكثير أما قيمة التمويل فسيتم تحديدها بعد أن يُحدد الموقع (المقلع أو الكسارة) الذي ستتم مباشرة العمل فيه ويقول منصور “فكرنا بتحديد طريق المتن السريع، في نهر الموت، محطة أولى ضمن هذه المبادرة. هذا إحتمال. والتنفيذ يحتاج الى دراسة الأثر البيئي. وإذا انطلقنا في ترميم طريق الأوتوستراد السريع وشير بياقوت فسيتطلب التنفيذ كلفة ثلاثة ملايين دولار”.
هل من مصاعب وثغرات؟ ماذا يقول محمد داوود؟ يجيب “نحن نعمل على التنسيق مع البلدية والمحافظة، لكن ما لاحظناه وجود بعض الصراع بين بعضهما البعض، نعذرهما، لأنهما يريان المدينة مدمرة، والأرض أشبه بعصفورية. لكن، ما نحتاجه نحن هو تجهيز الأرض التي نجمع ونفرز ونطحن فيها بشكل قانوني. نحتاج الى مستند قانوني يسمح لنا بالعمل لكن البلدية والمحافظة تكتفيان بالكلام. نحتاج أن نتمكن، بموجب مستند قانوني، من منع الكميونات التي تصل الى نقطة الجمع محملة بالنفايات. لا نريد مكباً جديداً بل نقطة إنطلاق لإحياء ما دُمر”.
المشروع مطلوب، لا بل ملح، فهو يحفظ الذاكرة ويخلّص العاصمة والضواحي من أزمة نفايات جديدة، خصوصاً أن المطامر الموجودة امتلأت، ويعيد الشكل الجميل الى جبال أكلتها الكسارات وشوهتها المقالع.
انطلق المشروع فهل ستُكتب له الحياة؟ فلنراقب.