المعرفة هي عملية تراكم مفاهيم ومعايير علمية واخلاقية وانسانية. والمعارف الشخصية هي عملية تراكم أفراد ومواقع ومراتب ومصالح، فالمعرفة هي البحث والتعلم والاستكشاف والابتكار والخلق والابداع والسير نحو الامام، اما المعارف فهي وقوف في الزمان وذوبان بالآخر وانتظار للفرص والمناسبات والبحث عن اصحاب المقام الأعلى في الارقام والاشياء. ورغم التطابق في الحروف بين المعرفة والمعارف الشخصية الا أنهما اتجاهان مختلفان في الغاية والأساس.
ربما يسأل البعض عن سبب الاهتمام الآن في محاولة التمييز بين المعرفة والمعارف، ولبنان يعيش ظروف استثنائية من القيل والقال والبطولات الفارغة من فلان وفلان. والجواب بمنتهى البساطة هو انه لو بقي لدينا من يعرف كيف نعوم لما غرقنا، ولو بقي لدينا من يعرف كيف نستشرف مستقبلنا ونتقدم نحو الامام لما تعطلت مسيرتنا، ولما عادت بنا عقارب الزمن الى الوراء. لو كان بيننا من يعرف كيف تصان المجتمعات وكيف تصنع الوثائق والتسويات لما كنا تفرقنا من جديد ولما عدنا الى حظائر المذهبية والطائفية والكراهية. ولو كان بيننا من يعرف في الدولة واسبابها لما كان قيام الدولة في لبنان امر محال.
يعتقد معظم اللبنانيين أنّ في معارفهم خلاص لبنان، بداية من أمّنا الحنونة الى الشقيقة القريبة الى اختنا المصونة الى جارتنا اللئيمة ونسيباتنا المذهبية غير العربية، ناهيك عن اوهام صداقاتنا مع الدول العظيمة او اخواننا في الاسلام والمسيحية والعروبة وما اكثر إدعائنا واعتزازنا بمعارفنا وقربنا منهم وابتعادنا عن بعضنا البعض، رغم كل الذي حل بِنَا يوم استقوينا بمعارفنا الخارجية على اهلنا ومواطنينا.
اصحاب المقام العالي لا يعرفون كيف يسمعهم أهل المعرفة او كيف يراهم العقلاء. انهم في حالة من الادعاء والإغماء والضياع وعدم المعرفة بألف باء السلطة بكافة اشكالها المدنية والعسكرية والدينية والسياسية والأخلاقية والإعلامية، لأنّهم يبحثون دائما عن المعارف الخارجية التي تؤمّن استمرارهم في اوهامهم، بمعزل عن ضرورات المعرفة وشروطها وأسبابها وفي مقدمتها عدم اهليتهم.
يتطلع بعض اهل المعرفة الى الإكثار من المعارف وهم يعلمون علم اليقين انّ تعاظم المعارف سيكون على حساب جدوى المعرفة وتأثيرها في تصويب المسارات وسلامة المجتمعات وتقدمها واستقرارها. ان في سعي اصحاب المعرفة نحو المعارف تحول في اصل المعنى المبني على وعي الذات ودقة معاييرها الانسانية والأخلاقية والعلمية، من اجل تحقيق رغبات شائعة وإشباع غرائز التسلط والتملك والإلغاء.
اشعر بحنين الى لبنان المعرفة، وعاصمته بيروت الحنونة والجميلة التي قصدناها ايام الطفولة في ستينات القرن الماضي، يوم كان المعارف يأتون اليها ليتنعّموا بمعرفتها واحتضانها. اشتاق الى بيروت التي قصدناها في ريعان الشباب مطلع سبعينات القرن الماضي لنتعلّم في جامعاتها والعمل في صحافتها التي كانت تتضمن صفحتين ثقافيتين كل صباح، يوم كانت بيروت عاصمة المطبعة والمسرح والسينما والشعر والأغنية والفنون التشكيلية والحريات الإعلامية والأيديولوجية من اليمين واليسار، يوم كان كل معارفنا في بيروت هم من اهل المعرفة والخلق والابداع والريادة والعطاء. نريد بيروت التي اخترناها في بداية التسعينات استراحة لسكينتنا الذاتية بعد حروبنا الطويلة وخاتمة لحياتنا وشقائنا، بيروت رفع اثار الحرب والدمار والوحدة والانتظام والانصهار، يوم اعتقدنا أننا قد تخلصنا من جنوننا واحقادنا وتسطحنا، واستعدنا عقولنا وقلوبنا مصدر كل معرفة وتقدم واستقرار. نعيش اليوم في بيروت الحزينة مع الكثير من المعارف والقليل من المعرفة.