دخل لبنان شهر الميلاد المجيد هذا العام بعيداً عن الصّخب السياسي.. إن لم نقل الصّراخ السّياسي.. لشدة الجراح والآلام التي تعاني منها الطبقة السياسية.. إذ سقطت كلّ الأوهام والرّهانات على التّحكم بالتّجربة الوطنية اللبنانية.. وكما احتفل اللبنانيّون بسعادة بذكرى الإستقلال بعيداً عن السّلطة وأزماتها.. إنطلقت فعاليات «بيروت ترنّم» بأمسياتها الموسيقية الرّاقية من كنيسة مار جاورجيوس في وسط العاصمة بيروت بأمسية للفنان اللبناني العالمي والبيروتي الأصيل عبد الرحمن الباشا.. وبرعاية البطريرك بشارة الراعي.. وحضور مميز للمسلمين والمسيحيين..
الملفت هذا العام هو تخصيص أمسية خاصة للإخوة العراقيين المسيحيين النازحين إلى لبنان ليس من الإستبداد كما كانت الأمور قبل سنوات.. إذ إستضاف لبنان سابقاً الكثيرين من المعارضين السياسيين العراقيين.. أما الآن فالنّازحون هم ضحايا الفشل السياسي للطبقة السياسية الحاكمة الآن في بغداد والتي كانت سابقاً من المعارضين والنازحين إلى لبنان..
ينشغل أهل السياسة هذه الأيام بأخبار الكوارث التي يتعرض لها جنودنا الأبطال الذين يعرفون أكثر من غيرهم لماذا هم الضحايا دائماً!.. ومن المسؤول عن أَسْرِهم وضياعهم وعدم تسليحهم وتركهم عرضة للاعتداءات من هنا وهناك.. وهم شباب أقوياء أشداء مؤمنون بوطنهم الحبيب لبنان.. ويتابع أهالي الجنود المخطوفين إعتصامهم على أبواب السراي الكبير.. حيث يدخل ويخرج أصحاب المعالي الوزراء.. في حين تتحمّل أُسر هؤلاء الجنود مع أبنائهم برد الشتاء وذلّ الأَسْر والإستلشاء.. وهم أكثر من يعرف ماذا يدور في الخفاء وقد اكتشفوا عجز طبقتهم السياسية.. وأنّ الوطن والمواطن ليسا أولوية لدى قادة البلاد.. وأنّ كلّ اللبنانيين يشعرون بأحزان أسر شهداء الجيش اللبناني في جرود رأس بعلبك المتروكين لمصيرهم.. أما الهبة السعودية فهي وحدها التي تقول بأنّ سلامة جنودنا وتسليحهم قضية وطنية.. مع إحترامي لكلّ بيانات الاستنكار والتضامن..
اعتقدُ بأنّ معظم السياسيين يعرفون أنّ العام ٢٠١٤ هو آخر أعوام المحنة ليس لأنّ السياسيّين قد وجدوا حلولاً للأزمات.. بل لأنهم قد فقدوا القدرة على خداع اللبنانيين.. وأنّ ما كان سائداً لسنوات لم يعد ممكناً الآن.. وأنّ السنوات العشر الماضية.. أي سنوات حكم اللبنانيين لأنفسهم.. كانت أسوأ بكثير من سنوات الوصاية أو سنوات الإحتلال..
سيحتفل اللبنانيون بأعياد الميلاد.. مسيحيون ومسلمون.. وسيتحاورون ويتسامرون ويتذكرون ويغنون للبنان الذي لم يبقَ لهم سواه.. ويتذكّرون الفنانة صباح الصوت الجميل جداً الذي اخترق أعماقنا ووجداننا.. وأسمعتنا ما نحبّ أن نسمع.. ولم تأخذ منّا ما كنا نحبّ أن نعطيها.. وكشفت عن زيف العاملين في عالم الفنون والدعاية والإعلام والمهرجانات التجارية.. واستطاعت أن تتفوق عليهم جميعاً.. في موتها كما في حياتها.. وخصوصاً ونحن نتابع إهدار الملايين من الدولارات التي تُصرَف على السّباقات والمهرجانات التجارية والتي تستخف بعقول الناس.. وللأسف بعض هذه الأموال حكومي من جيوب عموم الناس.. وإنّني أعتبر كلمة صاحب الغبطة البطريرك بشاره الراعي في جنازة الراحلة الكبيرة صباح من أرفع ما سمعته في السياسة منذ سنوات طوال.. لأنّ السياسة بحقيقتها هي أنبل المهن لأن غايتها هي سعادة الإنسان وكذلك هو المبدع والفنان..
سيتذكّر اللبنانيون سعيد عقل الشاعر الذي اختصر هويّاتنا بشعره.. فصيحاً كان أو محكياً أو لبنانياً.. وهي عربية في كلّ الاحوال.. كلّ ذلك غير مهمّ.. المهمّ أنّ سعيد بقي شاعراً كبيراً وسيبقى كذلك أحببنا ذلك أو لم نحبّ.. وسنتذكّر الراحل الكبير الشاعر جورج جرداق الذي أعطى حتى الساعات الاخيرة من حياته وبقي جنوبياً لبنانياً عربياً.. مبدعاً وجميلاً.. «بين ماضي الزمان وآتي»..
لن ينتظر اللبنانيون الحوار الموعود واكتفوا بالوعد به.. وهم واثقون من أنّ الحوار قادم لا محال.. لأنّ الحوار هو الحياة وليس مسكّنات على حدّ تعبير أحد القيادات.. وأنّ على المتحاورين أن يلتحقوا بإرادة اللبنانيين الذين لم يتوقف حوارهم يوماً.. ولن يتوقف.. وأنّهم ماضون في العمل على استقرار مجتمعهم وأسرهم واقتصادهم.. بعيداً عن سلطتهم التي نأت بنفسها يوم كان يجب أن تتحمل مسؤوليتها وتحمي لبنان ومجتمعه واقتصاده من الحرائق التي تحيط به..
ستستمرّ أمسيات «بيروت ترنّم» طيلة شهر الميلاد المجيد وفي كلّ كنائس بيروت.. وسيحضرها الصغار والكبار.. والفقراء والأغنياء.. والمسيحيون والمسلمون.. وبدون مقابل.. لأنّ ما من أحدٍ يستطيع أن يدفع ثمن وحدة لبنان ووحدة اللبنانيين المؤمنين بالرحمة الإلهية وبالمحبة والسلام للبنان ولكلّ اللبنانيين.. وستبقى بيروت بيتنا الكبير والجميل والحبيب مهما تغابى الأغبياء..