سقط نظام الأسد. عادة ما تفرح أخبار كهذه شعباً واحداً. هكذا كان القذافي. ومبارك. وبن علي. وصدّام حسين. إلّا هذا السقوط أفرح شعبين. أخطأ حافظ الأسد حينما قال إننا شعب واحد في بلدين. فهو في ذلك لم يقصد وحدة الروابط التاريخية والثقافية بين السوريين واللبنانيين، بل كان يعبّر عن نظرة عقائدية توتاليتارية تعتبر لبنان الكبير خطأ تاريخياً كولونيالياً، لا يعالج إلّا بتولّي سيادته قيادة هذا الشعب الواحد (غصب عنه). إلّا أنه أصاب حينما قال إننا في لبنان وسوريا أسرى “وحدة المسار والمصير”. نحن فعلاً كذلك. ليس بمعنى أن مسارنا ومصيرنا يقرّرهما الأسد عنا جميعاً، بل بمعنى أننا والسوريين مسارنا الهلاك ومصيرنا البأس ما دام نظامه يحكم سوريا. بهذا المعنى، من الدقة تسمية الظاهرة بوحدة المصير والتحرير.
كتب الشهيد سمير قصير منذ عشرين عاماً مقالاً تاريخياً يثبّت فيه هذه النظرية بمعناها الحقيقي: “ربيع دمشق يبدأ من بيروت”. مفهوم أن يوزّع سمير قصير الأدوار بهذه التراتبية، نظراً لتاريخ لبنان كواحة للحريات العامة والعاصمة العربية الوحيدة التي نعمت بتجربة ديمقراطية حقيقيّة في مرحلة ما بعد الاستقلال. ونظرية قصير كانت انعكاساً أيضاً للحقبة التاريخية التي عمل خلالها، والتي شهدت احتلال النظام السوري (المخلوع!) للبنان وقراره السياسي، ومحاولته استنساخ تجربته العسكريتاريّة على الواقع اللبناني. بحيث كان النظام يعبّر جهاراً عن أنّ الحريات في لبنان (بتعبيره “التفلّت” و “القطر اللبناني”) تشكّل تهديداً لديمومة النظام (بتعبيره “الأمن القومي السوري”). إلّا أنّ المعادلة بالحقيقة – أقلّه اليوم – تبدو معكوسة تماماً: ربيع دمشق هو الذي سيزهر في بيروت.
مصيبة الأزمة اللبنانية منذ العام 1970 لها أبعاد متعدّدة، منها الخارجي ومنها الداخلي، ولكن لا يوجد عنوان يضمن استمراريتها الدائمة يوازي بأهميته وجود نظام البعث على حدود لبنان. من تجارب كثيرة في العالم، من يوغوسلافيا إلى شمال إيرلندا، من المؤكد أن لا حياد لدولة متنوّعة طائفياً إن كان جوارها عسكريتارياً وعقائدياً، خصوصاً إن كانت تلك “العقيدة” في صلبها رفض الاعتراف بالدولة الجارة كحقيقة تاريخية. من بدايات وصول حافظ الأسد إلى الحكم في سوريا، بدأت “مؤامرة” إخضاع لبنان واستخدامه لأغراض الدور الإقليمي المنتفخ مع دعم الفصائل الفلسطينية المسلحة الموالية لدمشق. من ثم كان دخول “قوات الردع العربية”، التي سرعان ما تحوّلت قوات احتلال عسكري وسياسي. إلى أن سلّم الملف اللبناني إلى الإدارة السورية بعد اتفاق الطائف، فكانت بداية مأساة جديدة. استبدل الطائف بالاتفاق الثلاثي (الذي بنصه يتحدّث عن “قيادة حافظ الأسد”) وتحوّلت مرحلة ما بعد الحرب إلى حقبة الاستتباع الكلي، واستثناء “حزب اللّه” من واقع “حلّ الميليشيات” خدمة للـ “رؤية الاستراتيجية” لنظام الأسد. ولو أن الجيش السوري طرد من لبنان عام 2005، عملت رواسبه الاستراتيجية على استمرار الأزمة اللبنانية حتى يومنا هذا. في كل هذه الرواية طبعاً، قافلة من الشهداء لا مجال حتى لتعدادها هنا.
سقط نظام الأسد. صحيح أن هناك بعض الأسئلة المشروعة حول هويّة البديل، ولكن بالمعنى اللبناني الجواب عنها كلّها محسوم. لا يمكن أن تلد سوريا نظاماً أسوأ للبنان من نظام الأسد، لو افترضنا السيناريو الأكثر سوداوية. وما شاهدناه لا يوحي بذلك أصلاً. لم نرَ مشهداً دموياً واحداً على الشاشات مع إسقاط نظام كان يقبع بسجونه أكثر من خمسين ألف سوري (ومعهم لبنانيون أيضاً).
تحدّث الكثيرون عن makeover للقيادي الجهادي أبي محمد الجولاني (الآن أحمد الشرع بنسخته المدنيّة)، لكن المسألة تتجاوز الشكليات. من الواضح أن هناك إدارة إقليميّة-دولية مشتركة للتحوّل السوري، تضمن عدم تحويل سوريا إلى ديكتاتورية أو ساحة جهادية متفلّتة. لنعد إلى لبنان: خط طهران بيروت قطع، لا توريد للسلاح إلى الميليشيات، علاقات نديّة من دولة إلى دولة، استخدام مسائل حدودية لشرعنة “المقاومة” (مزارع شبعا وأخواتها) سيصبح من الماضي، ولا حلفاء يستقون بنظام الأسد لفرض واقع مخالف لأبسط القواعد الديمقراطيّة. لا شبح دولة جارة كبيرة تشكّل تهديداً وجودياً للبنان، ككيان مستقل ونظام سياسي. رسالة المعارضة إلى الشعب اللبناني تؤكد ذلك، ولا سبب لاعتبارها غير صادقة. ولو أردنا أن نبالغ في الطمع (المشروع)، لقلنا إن نظاماً ديمقراطياً يعمل بالحد الأدنى في سوريا سيشكّل أكبر ضمانة لمستقبل “طبيعي” في لبنان، الذي لطالما كانت نقطة ضعفه الأساسية فرادة تجربته الديمقراطيّة في هذا المشرق العربي.
انقلبت المعادلة. لم ينتج ربيع بيروت في العام 2005 ربيعاً سورياً. فانتفاضة العام 2011 في سوريا كانت في سياق “الربيع العربي”، وليس من العلم أو المنطق (لو راق لنا ذلك) أن نربطها بثورة الشعب اللبناني على احتلال الجيش السوري أرضه وقراره. الأسوأ بهذا المعنى هو أن بقايا سلطة الاحتلال (سلاح “حزب اللّه”) أجهضت التجربة الاستقلالية والحضارية اللبنانية، إلى درجة أن اللبنانيين باتوا يقولون إن “زمن السوري” كانت له خصائص إيجابية لم يبقَ منها شيء في حقبة “الزمن الإيراني”. عدنا إلى نقطة الصفر في العام الماضي. سوريا بقبضة الأسد ولبنان يحكمه “حزب اللّه”، وبينهما وحدة مصير في الفقر و الخراب و التخلّق الحضاري. الآن “حزب اللّه” في لحظة ضعف وجودية، وقد سقط نظام الأسد، وقد ساهمت الحالة الأولى في الثانية حتماً. الأمل بغد أفضل يشرق علينا من نهاية النفق: ربيع العرب حين يزهر في دمشق إنما يعلن أوان الورد في بيروت. بتصرّف، بالإذن من سمير قصير، رحمه الله.