يجتمع اليوم النواب المسيحيّون في بيت عنيا للصلاة في أسبوع الآلام. وهم يحملون معهم المشاريع الوطنيّة التي ينتمون إليها. فالإنقسام المسيحي هو ترجمة للإنقسام الوطني لأنّ الإشكاليّة اللبنانيّة كما بات معروفاً، طبيعتها وطنيّة وليست مسيحيّة. وهذا الانقسام هو ثلاثيّ الأبعاد.
قسم من المسيحيّين يمثّلهم تيار ميشال عون – جبران باسيل وسليمان فرنجيّة، ومشروع هؤلاء واضح حيث يرفضون حتّى الساعة قيام دولة فاعلة وقادرة وقويّة منتظمة العمل المؤسّساتي، بهدف تمكين «منظمة حزب الله» من تنفيذ مشروعها الإيديولوجيّ. بينما القسم الثاني لا يحمل أيّ مشروع إيديولوجي للدولة، له علاقات وصداقات إقليمية ودوليّة ولكن لا ترتقي إلى حدّ الارتباط الإيديولوجي بأيّ كيان خارج الكيانيّة اللبنانيّة. والقسم الثالث يرفض الدّخول في أيٍّ من المشروعَين ولكنّه يتماهى مع مشروع الدّولة التي يراها من وجهة نظره.
أمام هذا الانقسام، يأتي اجتماع اليوم للصلاة عسى أن يتمّ التقارب بين هذه المشاريع الثلاثة. ولا يبدو أنّ أيّ من الفرقاء الثلاثة مستعدّ للتنازل عن رؤيته لمشروع الدّولة. وممّا لا شكّ فيه أنّ التغيّرات الإقليميّة ترخي بظلالها على أصحاب المشاريع الثلاثة. فممّا بات واضحاً أنّ اللبنانيّين لا يريدون بعد اليوم رهن وطنهم لأيّ مشروع خارج الحدود اللبنانيّة. والسواد الأعظم من الشعب اللبناني يرفض ألا يستقلّ القطار الجديد لرؤية 2030. ولن يقبل اللبنانيّون الأحرار أن يُستثنوا من هذه الرؤية.
لذلك، لن يكون المرتقب من هذا الاجتماع على قدر المرجوّ. وعلى ما يبدو أنّ السياسة ستكون على الحياد. ولعلّ هذا ما دفع بعض المراقبين إلى التساؤل عن جدوى هكذا لقاءات في ظلّ هذا الانقسام العمودي الذي يشلّ البلد. ولكن لا يمكن بعد اليوم الاستمرار بالتجاهل السياسي الذي وصل مع محور الممانعة إلى حدّ التجهيل. ولعلّ في هذا التكتيك ضرب من ضروب الجهل الذي لا يمكن القفز فوقه. لأنّ التّاريخ يشهد على التموضع الحقيقي للبنانيّين عبر التاريخ كلّه.
وإن دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على أنّ الخيارات الكبرى للمسيحيّين محسومة. ومن المعيب تسويق نظريّتي لبنان الكبير ولبنان الصغير، انطلاقاً من أنّه لحظة يعجز المسيحيّون عن حكم لبنان الكبير بعد تحوّلهم صغاراً فيه (عدديًّا)، يلجأون إلى استعادة جمهوريّة جبل لبنان، أي لبنان الصغير ليكونوا كباراً فيها من حيث العدد والديموغرافية. إلا أنّ هذا الخلل يعود إلى العقول المتحجّرة التي توقّف الزمن عندها قبل 22 تشرين الأول 1989 تاريخ إقرار وثيقة الوفاق الوطني التي وقّعت في مدينة الطائف في المملكة العربيّة السعوديّة في 30 أيلول من العام نفسه.
من هذا المنطلق، ما يجب استثماره من هذا اللقاء يجب أن يكون «المظلّة» التي انعقد تحتها، أي بكركي. ولكن من دون أن يتمّ زجّ هذه المرجعيّة في لعبة الأسماء والالتزام مع شخصيّات؛ ولا يحاولنَّ أحد استغلال هاجس بكركي الاقتصادي لأنّه قد يضرب وجوديّة الكيان برمّته، وذلك لتسويق أسماء من خلفيّات اقتصاديّة، لأنّ هذا ما قد يؤدّي إلى انحراف بكركي عن خطّها التاريخي الكِيَاني.
ولا يصعب على أحد الإدراك سلفاً أنّ موقف بكركي في لحظات الأزمات الكِيَانيَّة هو موقف حازم وطنيّاً ومؤسّساتيّاً. فعلى ما يبدو حتّى الساعة أنّ تبنّي أيّ اسم هو أمر مستبعد. ومحاولة بكركي من هذا اللقاء هي وضع الفرقاء السياسيّين على اختلاف قناعاتهم أمام مسؤوليّاتهم الوطنيّة، لأنّ الانقاذ السياسي لن يأتي إلا من السياسيّين أنفسهم.
أمام هذا الواقع يبدو أنّنا بتنا على قاب قوسين من طرح المرشّح الثالث أي ما بعد خيار فرنجيّة من قبل فريق الممانعة. ولن يألو هذا الفريق أي جهد إقليمي ودولي لتسويق هذا المرشّح. ولعلّ هذا ما قد يضع الفريق السيادي أمام مسؤوليّاته لأنّ هذا الأمر إن حصل قد يدفعه للذهاب نحو تبنّي مرشّح من خارج هذا الاصطفاف السيادي، على أن يحمل الرؤية المؤسّساتيّة نتيجة لخبرته في إدارة المؤسسات. وقد يستفيد حينها من المومنتم الإقليمي الدّاعم لهذه المواصفات. ومن الممكن أن يكون هذا الفريق قد وضع بكركي في هذا التصوّر.
ويبدو أنّ أسهم قائد الجيش جوزف عون عادت إلى الارتفاع لأنّه الأقرب إلى هذه المواصفات، في ظلّ عقم «المارونيّة اللبنانيّة» عن إنتاج شخصيّة سياسيّة بهكذا مواصفات، ولكنّ هذه المسألة بحاجة إلى تسوية دوليّة برعاية إقليميّة؛ ويبدو أنّ الموفد القطري الذي زار لبنان قد استطلع الأرضيّة السياسيّة من الذين زارهم، وما استبعاده زيارة فرنجيّة إلا مؤشّر إضافيٍّ على طبيعة المرحلة القادمة. ذلك كلّه، سيمهّد لعمليّة إخراج هذه التسوية التي على ما آلت إليه الأمور، أنّها تنضج على نار هادئة بعيداً من الضوضاء والشعبويّة.