أزمة معمل النفايات على كتف “وادي لامارتين”
هي بيت مري، وهو وادي لامارتين، وهم أطراف الصراع في ملفٍ تفوح منه روائح كثيرة، متنوعة، أقلّها النفايات! هناك، في وادي لامارتين، المسمّى على اسم الشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين، حكاية أخرى من حكايات لبنان المثقلة بكلِّ الملوثات. هناك ناس “مع” وناس “ضدّ”، وناس يحكون على ناس، وناس يشكون من ناس، والوادي، الذي تغنى بجماله الشاعر لامارتين ورسمه الشاعر آرثر رامبو، حكاية أخرى من حكايات “الفوضى البناءة”!
فلنبدأ من الآخر، قبل أن “تستدير” عيون أطراف الخلاف، ويتصبب العرق منهم، معتبرين أننا ندافع عن هذا أو عن ذاك. الصورة أبعد من هذا ومن ذاك. الصورة بحجم الملفات المهملة بحجة “ضرورات الأمر الواقع”.
رئيس بلدية بيت مري منذ أربعة أعوام، هو المحامي روي أبو شديد. وعمر معمل فرز النفايات الذي يتكئ، في بيت مري، على كتف وادي لامارتين، أربعة أعوام. بدأ يعمل في الثامن من أيلول العام 2016 بالتحديد. وأوكل أمره الى الخبير البيئي زياد أبو شاكر، من أجل إيجاد حلّ للنفايات المتراكمة في أرجاء المنطقة، كما في كل لبنان، بعيد أزمة النفايات الكبيرة في 2016 والمرجحة لتتجدد في 2020. إذاً، موقع فرز النفايات تَشكّل وفق قاعدة “من الموجود جود”. فالنفايات، بحسب أبو شاكر، “كانت ترمى بعشوائية في الوادي، وارتفعت الأصوات من مطمر المونتفردي، وكان لا بُدّ من إيجاد حلّ يرفع النفايات المتراكمة عبر تقنية الفرز والمعالجة والتدوير”.
إذا سلمنا أن ما نراه اليوم على كتف وادي لامارتين على قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” فلماذا كل ذاك الصراخ الذي سمعناه من شخصيات في بيت مري؟
طرحنا هذا السؤال على أبو شاكر وأتى جوابه حاسماً “هؤلاء “حرتقجيي” و”زلم” رئيس البلدية السابق وأخصام رئيس البلدية الحالي، ونحن تقدمنا بدعوى ضدهم بتهمة إساءة السمعة والقدح والذم”.
نصدق؟ فلنسألهم: هل أنتم بالفعل “حرتقجيي”؟
تقع بيت مري على هضبة، ترتفع عن سطح البحر 750 متراً. جميلة جداً هذه الضيعة بأشجارِها وفلَلها ومبانيها وطرقاتها ووديانها. هناك، عند حفافي وادي لامارتين، إلتقينا ببعض “شباب” بيت مري. ومن هناك توقفنا نشاهد معمل فرز النفايات من فوق. الرائحة كريهة جداً، والوادي أخضر جميل من جانب وصحراوي كريه من جانب آخر. ولامارتين سيبكي لو وقف عند هذه الحفافي. لكن، ماذا كان سيختار من إجراء لو كان لبنانياً وليس فرنسياً؟ هل سيقبل بأن تتكوم النفايات على الطرقات وبين البيوت أم سيقبل “بالممكن” ويُبقي على المكب المتكئ عليه؟
المهندس زياد رشيد، قدّم حتى الآن خمس دعاوى الى التفتيش المركزي والنيابة العامة البيئية ووزارة الداخلية والبلديات ووزارة البيئة وديوان المحاسبة من أجل “وقف المجزرة البيئية في بيت مري والاقتصاص من المتورطين ومحاكمتهم”. شبيب هو من أشرف البارحة، قبل أربعة أعوام، على وضع ركائز معمل الفرز هذا فما عدا وما بدا ليرفع اليوم الصوت؟ يجيب: “جهزنا هذا المعمل العام 2016، بقيمة 80 مليون ليرة، ليكون حلاً موقتاً، لكن ما حصل أننا نطالبه، منذ أعوام أربعة، بالفرز الصحيح عبر إزالة النايلون، ونطالب البلدية: “بليز لاقوا حلّ”! لكن لا آذان لمن ننادي”. قريب المهندس زياد رشيد ويدعى ايلي رشيد، وهو عضو بلدي استقال من بلدية بيت مري منذ أشهر قليلة، يتحدث عن “ست سبع” قرى مجاورة بدأت ترمي نفاياتها في بيت مري ويُعدد منها: “قرطاضة، زندوقة، القصيبة، الكنيسة والغابة”، يضيف: “أقيم المعمل لاستيعاب نفايات الضيعة لا غير ولوقتٍ محدد، هو وقت الأزمة، الى حين حلّ المشكلة مع سوكلين، لكن ما حصل أن المسألة تداخلت مع حسابات ومحسوبيات وتجارة وسياسات ضيقة، رفعت نسبة استيعاب هذا المعمل المحدد بثمانية أطنان شتاء و12 طناً صيفاً، وهي نسبة النفايات التي تتمخض يومياً عن بلدة بيت مري، الى عشرين طناً. بلدة بيت مري لن تقبل باستقبال نفايات القرى المجاورة”.
نركز الكمامات جيداً حول أنوفنا ونحن نراقب من فوق المشهد الموجع ونصغي الى سيمفونية “الحق عليه… لا، لا الحق عليهم”! ننظر الى الوادي، الى أشجار الشوح والصنوبر، ونحن نصغي الى نفس الاتهامات من الجانبين ونعوت “بالحرتقجيي والحسابات الضيقة”.
الوادي مرسوم طبيعياً على شكل الرقم 7 بالعربية، وفي أسفله يمرّ نبع الديشونية، الذي يشرب منه كثيرون، ويعود ويصب في مجرى نهر بيروت. نراقب المشهد على صدى شاحنات تنقل النفايات الى داخل المعمل المكون من هنغار وماكينة لفرم النفايات وتحويلها الى سماد. المعمل يتكل على اليد العاملة ويضم 22 عاملاً. وهو قد يكون ضرورة، في غياب السياسات البيئية البناءة التي يفترض أن تكون بحجم لبنان، لكن منظره موجع والروائح المنبعثة منه تجعلنا، إذا سئلنا أين نحن، نجيب: على كتف معمل النفايات في بيت مري لا في الضيعة الجميلة بيت مري.
من المسؤول؟ صعبٌ إلقاء المسؤولية على أحد غير الدولة. فمعامل النفايات ضرورية لكن اختيار الموقع الجيد ضرورة أخرى. والموقع ليس جيداً أبداً.
رئيس بلدية بيت مري روي أبو شديد منهمكٌ جداً في أخذ كل الإحتياطات لتجنيب البلدة مخاطر الجائحة التي “تهلك البلاد والعباد” تحت عنوان “معاً لمواجهة كورونا”، وهو أحسن من يقوم بالواجبات. لا ينسى أي مناسبة. وجه تحياته البارحة الى مؤسسة الجيش، وعيّد قبلها بعيد الأضحى، وقبلهما بعيد العمل وعيد الفصح وعيد الميلاد… أما، في خصوص معمل النفايات “فالريّس” كان قد انتهى قبل عامين من الإستحصال على الرخص القانونية لإنشاء معمل جديد لفرز ومعالجة نفايات الضيعة، على مساحة 150 ألف متر في منطقة المقالع والكسارات والأحجار. لكن الأصوات ارتفعت. فهل هناك بالفعل “حرتقجيي”؟ زياد رشيد الذي يردّ التهمة على قائلها يشرح: “نحن نرفض أن تتحول بيت مري الى مكب، ونحن سجلنا في الإخبارات التي رفعناها قسماً من الأضرار الحاصلة للبلدية والبلدة والمجتمع، خصوصاً لجهة الإقدام على ارتكاب مجزرة بيئية في وادي لامارتين وطمر مجرى نهر بيروت وجعله مستنقعاً موبوءاً تسرح فيه عصارة النفايات وتتغذى منه الجراثيم والأوبئة، وهدر أموال طائلة تقدر بملايين الدولارات”. هنا، في هذا الإطار يتحدث عضو البلدية المستقيل إيلي رشيد عن تقاضي زياد أبو شاكر 70 دولاراً عن كل طن من النفايات وهو، لهذا، يستقبل شاحنات نفايات القرى المجاورة، ويحصد الأرباح، كما أن السماد الذي ينتجه المعمل مثقل بالبلاستيك، ما قد يحرق أي شجرة يوضع تحتها. يعني هذا تدميراً هائلاً للبيئة”.
لكن، السؤال: ماذا يريد زياد رشيد وايلي رشيد وكل من يرفعون الصوت معترضين؟ هل يريدون رفع المعمل نهائياً من بيت مري؟ وما مصير النفايات التي تتمخض يومياً؟ وهل راجعوا رئيس البلدية؟
يجيب زياد رشيد: “تكلمنا كثيراً ولم نجد سوى وعود ووعود ووعود…” ويستطرد: فليتوقف المعمل ولنتعاقد مع رامكو. و”بيسوانا يلي بيسوا غيرنا”. بيت مري ليست مضطرة أن تتحمل خطيئة الدولة ونفايات المتن. وإذا كان لا بُدّ من معمل فليبق المعمل “على قدّ” الضيعة.
ما رأي زياد أبو شاكر بكل ما سمعناه؟
يبدو الخبير البيئي غاضباً جداً من كل ما حكي (ويحكى) ويقول: “يلي شاركوا بجريمة جعل الوادي مكباً للنفايات يصنعون من أنفسهم حالياً “قبضايات”. نحن، أتينا لاحقاً لمعالجة الوضع القائم. كشفنا على الأرض وتبين لنا صعوبة البناء عليها لذا اكتفينا ببناء هنغار وأبقينا على عملية التخمير في العراء. ويستطرد: إنهم (الحرتقجيي) يوزعون صوراً تظهر وجود النايلون في السماد، وهذا غير صحيح، فنحن نعود ونفصل النايلون كلياً عن السماد، ونملك فيديوات تُظهر عملنا. نحن نعود ونفرز يدوياً بعد الفرز الميكانيكي كي نتأكد من خلو المرحلة النهائية من النايلون. أما، في مسألة الرائحة، فليس هناك أي معمل تخمير في العالم “صفر رائحة”. ففي المعايير “الستاندرد” تبقى هناك رائحة تنبعث حتى مئة متر من حرم المصنع. ونحن اتفقنا بموجب العقد مع البلدية على رائحة قد تنبعث على مسافة 240 متراً لكننا تمكنا عملياً من تقليص انبعاث الروائح الى أقل بكثير، الى حدود 40 متراً فقط لا غير خط نار”.
وماذا عن الشاحنات التي نراها تروح وتجيء من القرى المجاورة؟ يجيب: “حين بدأنا في العمل أردنا أن نصل في المعالجة الى “صفر نفايات”. ويستطرد: “أملك براءة اختراع بتحويل أكياس النفايات الى أملاح. لكن، قلنا لهم، معالجة النفايات بلا طمر وحرق تتطلب وجود عمال، ويجب، من أجل التمكن من دفع التكاليف، وجود ما لا يقل عن 18 طناً من النفايات يومياً. العقد واضح. لذا ارتأينا أن نأتي بنفايات زندوقة والقصيبة اللتين يقع المعمل عند تخومهما. هكذا نتمكن من تأمين كلفة المعمل ومساعدة هاتين الضيعتين على التخلص من أزمة النفايات”.
الأرقام تختلف من جهة الى جهة. هناك من يتحدث عن 12 طناً كحدّ أقصى وهناك من يتحدث عن 18 طناً كحدّ أقصى. نستغرب؟ نتذكر أننا في بلد الأرقام المتفاوتة!
ألفونس دو لامارتين قال ذات يوم، وهو يجول في البراري والصحارى، وبعد أن وقف على مشارف الوادي الذي حمل اسمه: “الضمير وحده بدون الله يُشبه محكمة بدون قاض”. فلنترك القضية، في زحمة القضايا والملفات والأزمات والضرورات والملوثات، الى الضمير.