Site icon IMLebanon

لبنان الأخضر أسود… صدفة أم للعمار أم للتفحيم؟

 

بيت مري الجميلة تحت النيران

 

…وبينما يسعى الناس الى إطفاء “النار” الكامنة في نفوسهم وهم يشاهدون كمّ المصائب النازلة عليهم من كل حدب وصوب، اندلعت النيران في الهشيم لتقضي على كل ما تمددت إليه من أخضر ومن يابس بدءاً من الجنوب الى البقاع الى جبل لبنان… فهل “النيران” تعمل هي ايضاً على قاعدة 6 و6 مكرر؟

 

قصدنا جبل لبنان، وتحديداً بلدة بيت مري النموذجية، الواقعة على هضبة ترتفع 750 متراً عن سطح البحر. ويا ما رددنا في كلِ مرة عبرنا فيها في تلك المساحة المسماة بيت مري والمونتيفردي: يا الله على جمال الطبيعة والاشجار الفارعة الموغلة في عمق التاريخ. اليوم، يتبدل المشهد المتنوع في لبنان والأخضر صار يابساً أسود، أو قلّ فحماً صار. فلماذا كل هذا القهر الذي يلاحقنا مثل ظلِنا؟

 

نقصد مباشرة المبنى البلدي. في محاذاته كنيسة مار ساسين. وأمام الكنيسة رجل مسن من آل أبو دامس. نراه مقهوراً جداً. هو تابع على مدى يومين تغيّر صورة بلدته الجميلة ولديه ما يُشبه الإتهام الجاهز: “عاملان سوريان كانا يحرقان الهشيم فخرجت النيران عن قدرتهما وحصل ما حصل”. هو قال ما سمع. نهز رأسنا ونتابع نحو البلدية. سيارة للدفاع المدني في نصف الساحة وكلاب شقر مشلوحة تعبة منهكة ترتاح تحت سيارة الإطفاء. ندخل إلى البلدية. رئيسها روي بو شديد لم يأتِ اليوم (البارحة). والبلدية التي دشنت في 4 أيلول عام 2004 برعاية وحضور رئيس الجمهورية آنذاك العماد إميل لحود شبه شاغرة. الموظفون لم يأتوا. أصوات طائرات الهيلكوبتر قوية. نتعقب الصوت ورائحة الحرائق فتأخذنا الى ساحة بالقرب من دير مار يوحنا القلعة للرهبانية الأنطونية المارونية. هناك غرفة العمليات التي أقامها الدفاع المدني. ثلاث مركبات له في المكان وصهريجا مياه وما يُشبه البالون الكبير البرتقالي اللون. هنا يعبأ البالون بالمياه وتأتي طائرات الهيليكوبتر وتعبّئ مياها لتخمد بها النار الكامنة تحت الرماد. كل 5 دقائق طائرة هليكوبتر تلفحنا مراوحها بهواءٍ عاصف، تدنو كثيراً من الأرض، تعبّئ الخزّان المعلّق وسطها بالمياه، وتعود وتطير به الى مكان لم تخمد ناره بعد مئة في المئة.

 

تبريد بعد الإطفاء

 

مدير العمليات في الدفاع المدني جورج أبو موسى حاضر في غرفة العمليات، التي هي كناية عن مركبة هي هبة من مؤسسة الوليد بن طلال الإنسانية. كل ما عندنا في لبنان هبات. أبو موسى يتابع كل التفاصيل ميدانياً ويقول: “ساهم أكثر من 2000 عنصر من الدفاع المدني في عمليات الإطفاء من خلال 18 سيارة”. لكن هل العدد كان كافياً لتلبية الحاجة؟ يجيب “حضرنا بسرعة لكن الأهالي يريدون سيارة إطفاء الى جانب بيوتهم وهذا ليس في مقدورنا. واجهتنا عراقيل كثيرة كون لا طرقات تقودنا الى الوديان والجبال والهواء كان متغيّراً كثيراً وقوياً جداً ما ساهم في جعل النيران اسرع من قدرتنا على إطفائها”.

 

ننظر الى الوديان المحيطة الصامدة في اخضرارها ونردد من جديد “الله على لبنان” على الرغم من كل السواد العميق الحالك. تصل مجدداً طائرة هيلكوبتر فينحني الجميع بعيداً عن العصف الذي تسببه فتعبئ 500 ليتر وتعود وتحلق عالياً. عمليات تبريد الأرض تستمر خشية أن يعود الجمر ويشتعل.

 

سيارة الدفاع المدني الواحدة تتسع لـ 10 آلاف ليتر. وهناك في الجوار سيارة كبيرة تتسع لـ25 ألف ليتر. والخزان البرتقالي يكفي لتعبئة ما تحمله ثلاث طائرات هيلكوبتر. نترك الشباب الذين لم يغمض لهم جفن منذ يومين منهمكين في تعبئة الخزان البرتقالي. ومتابعة أي جديد ميدانياً.

 

الحرائق الكبرى حدثت في المونتفردي. ننتقل إليها، فنجد مساحات واسعة اصبحت رماداً. وكثير من أشجار الصنوبر التي يزيد عمرها عن 300 عام باتت لا تصلح إلا للتفحيم. فهل هناك من عبث في الطبيعة لغرض ما في نفس يعقوب؟ ثمة يافطات في الجوار تعلن: سوا منعمل الفرق. ننظر في وجوه شباب الدفاع المدني فنتأكد ان هناك من لا يزال يؤمن بلبنان وديمومة لبنان بلا ولا شيء. بلا مال وبالكاد ببعض العتاد.

 

أراض كثيرة للبيع في المونتفردي. ومزارات كثيرة نُحتت في الصخور. مار الياس ومار شربل والقديسة أوغسطينا ومريم العذراء. وأعمدة إنارة تعمل على الطاقة الشمسية. نقرأ عبارة “يا شربل ساعدنا يا شربل إحمينا” ونحن نتابع المسار. نعبر قرية قرطاضة، بين أشجار السنديان والزنزلخت والزيتون، قبل أن نعود أدراجنا الى قلب مونتفردي. رائحة الحرائق تعود لتشتدّ. مركبات الدفاع المدني تقطع الطرقات بين حين وآخر بحثا عن طرق فرعية تعبر منها الى قلب الجبال والوديان. ثمة طريق غير معبدة تعبر منها واحدة نحو حرم معمل أحجار باطون ومواد بناء يستعر حوله الجمر. وبالقرب منه يقف مهندس أحد المباني والى جانبه إمرأة. هي إبنة النائب السابق سليمان كنعان وزوجة إبن وزير الخارجية عبدالله بو حبيب. منزل النائب كنعان في الجوار وهو يسكن في جزين وابنته وصلت للتوّ لتطمئن الى حال البيت.

 

ننظر الى التلة المجاورة. ثمة حرائق مرّت من هنا. وأحد سكان الجوار وهو مهندس زراعي من آل خوري يتحدث عما عاناه السكان طوال يومين: “هناك، على تلك التلال، يأتي الكشافة عادة، والبارحة، بينما كان رجال الإطفاء يقومون بمهمتهم انفجر “شيء ما” في وجوههم ونقل الصليب الأحمر ثلاثة جرحى. هنا المونتفردي، وهي تابعة الى بيت مري. وأهالي المبنيين المجاورين عملوا ليلاً على إقتلاع اليباس من حول منازلهم لكن يستمر الهشيم كثيراً.

 

خمسة شبان وصلوا للتوّ مع “الرفوش”. هؤلاء عمال سوريون يساعدون في أعمال الإطفاء وسجلوا لقطات لأنفسهم وهم يفعلون ذلك. نشاهدها معهم قبل ان يعودوا أدراجهم فخورين بما فعلوه. سوريون إتهموا بافتعال النيران وسوريون ساعدوا في إطفاء النيران. ثمة زعران وأوادم عند كل الملل.

 

9 حرائق في آن

 

المهندس الزراعي يتحدث بدوره عمّا أثار العجب. هناك 9 حرائق اندلعت في آن واحد. فهل ذلك أمر عادي؟ هو يتكلم ويسأل ويتابع من دون أن ينتظر تعليقاً. ثم يدخل في عالم التكهنات والتحليل: “تلك الحرائق قد تكون مفتعلة لهدفين: أولهما أن العمار في المنطقة يقتصر على 20 في المئة من المساحة الحرجية (أي 200 متر من كل ألف متر)، لذا قد يكون هناك من يهمه “تدمير” تلك المساحة، أما الهدف الآخر فقد يكون “التفحيم” والتفحيم غير التحطيب”.

 

نتوجه نحو شارع الفيلات في مونتفردي، وهو يسمى شارع “نبع السعادة”. ثلاثة أرباع الفيلات شاغرة، سكانها على الأرجح مغتربون. نتابع صعوداً نحو المساحة الأكثر تضرراً. ثمة أربع أو خمس فيلات لأقارب من آل مسعد. وأحد مالكي مبنى رقم 11 يقدم الى شباب وصبايا الدفاع المدني الأربع الذين أتوا الى المونتيفردي للمساعدة قناني المياه والبلح الشهي. هو غادر مع أهل البيت مسكنهم أول البارحة وعاد اليوم ليساهم بما يستطيع. يكرر عبارات “يعطيكم ألف عافية” الى عناصر الدفاع المدني. أحد هؤلاء وهو مخضرم يتذكر أنه أطفأ حريقاً مماثلا في نفس المكان قبل عشرين عاماً لكن ما حدث اليوم أن الحرائق خرجت عن السيطرة. ويعدّ الحريق الخارج عن السيطرة ما امتدّ على مساحة تتجاوز 30 ألف متر. هنا تجاوز ذلك بكثير ولامس حدود الفلل الموجودة. وما حصل أن الهواء كان صعوداً وهو حين يكون “طلوع” يكون أسرع 16 مرة منه نزولاً، كما كانت نسبة الجفاف عالية والرياح شرقية.

 

أمور كثيرة قد تتسبب باندلاع الحرائق أهمها “قلة ثقافة الناس” وحصول “ماس كهربائي” بفعل “كابل” تحت الأرض. سيارات الدفاع المدني إستخدمت في عمليات الإطفاء مياه الينابيع وحدها كي لا تتسبب بأضرار إضافية في الأحراج وحدوث ترسبات. ويقول أحد العناصر: “لا نستخدم المواد التي تطفئ النيران إلا إذا بلغنا مرحلة الهجوم من أجل بناء سد منيع. فنحن ندافع بوقف تمدد النيران بمياه الينابيع وإذا اقتربت من المساكن نتحول الى خطة الهجوم.

 

سؤالٌ آخر يطرأ في بالنا: كيف تتمدد النيران من ميل الى آخر وتتجاوز بعض المطارح التي تبقى سالمة سليمة؟ يجيب أحد العناصر “حين تندلع النيران في الأخشاب يحدث ما يشبه التفكك والتحلل الحراري ويصدر بخار يصبح بمثابة وقود وهو يتطاير فإذا وجد مكانا مؤاتياً إندلعت فيه النيران من جديد”. نعود أدراجنا على صدى سيارات الإسعاف وصفارات سيارات الدفاع المدني وهدير طائرات الهيلكوبتر. ونقرأ على الطريق، في المكان، عشرات الإعلانات: فيلا للبيع. ثمة أناس فقدوا الإيمان بجدوى البقاء في البلد. فماذا عن الباقين مع تكرار المصائب في بلد الصنوبر والزيتون والأرز والشربين؟ ننظر في عيون المارة فنشعر بهم يرددون ولو همساً: اللهم أبعد عنا المزيد من الكؤوس المرّة.