في محاولة للبحث عن علاجات موضعية لبعض مشكلات المياه في البيئة المحسوبة على «حزب الله»، نشر الجهاز الإعلامي لـ»الحزب» خبراً عن زيارة قام بها النائب رامي أبو حمدان لمدير عام مؤسّسة مياه البقاع بالتكليف جان جبران، مستعرضاً واقع بعض المحطات والآبار التي تمنع تأمين المياه بالشكل اللازم للمواطنين.
الزيارة بحدّ ذاتها توحي بأنّ الواقع الإداري والمالي للمؤسّسة التي تعنى بتأمين المياه في نطاق جغرافي يشكّل ثلث مساحة لبنان، بألف خير. ولا يؤخّر إنجاز بعض الملفّات سوى تراكم المشاريع التي تعنى بزيادة مصادر المياه وإصلاح الأعطال التي تعيق وصولها إلى المواطنين، بينما أبو حمدان يعلم مثله مثل كلّ نوّاب المنطقة أنّ واقع الحال ليس كذلك إطلاقاً.
فمؤسّسة مياه البقاع التي تخدم محافظتي البقاع وبعلبك الهرمل من أقصى شمال المنطقة إلى أقصى جنوبها، بما تضمّ من تنوّع ديمغرافي وطائفي، أضيف إليها منذ سنوات أيضاً ملفّ النزوح السوري، فقدت الإستقرار الإداري منذ قبول استقالة مديرها السابق رزق رزق في 31 كانون الثاني من العام الماضي، من دون أن يعيّن مكانه مدير أصيل جديد.
وعليه، فإنّ أمور المؤسسة تدار حالياً بالتكليف، وقد تناوب عليها حتى الآن مديران عامان على مراحل ثلاث. فكلّف مدير عام مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان جان جبران بالمهام في آذار 2022 بعد الأزمة التي ولّدتها إستقالة المدير العام السابق في صرف رواتب المستخدمين والأجراء، ليتولّى المهام من بعده مدير عام مؤسسة مياه لبنان الجنوبي بدءاً من شهر تشرين الأول من العام 2022، ليكلّف جبران مجدّداً بالمهمة منذ بداية العام الجاري. هذا في وقت لا يزال مجلس إدارة المؤسسة الذي يشكّل السلطة التقريرية فيها، يمارس صلاحياته على رغم انقضاء مهلة تكليفه (عام 2010) منذ سنوات، وهو يجتمع حالياً برئاسة العضو الأكبر سناً، لاتّخاذ بعض القرارات الظرفية التي يحاول من خلالها كلّ عضو مختار بناء لولاءاته السياسية أن يمرّر مصالح بيئته أو منطقته أولاً.
توقيع خمسة مديرين
في محاولة لوصف حالة «الكربجة» التي تعانيها المؤسسة جرّاء شغور منصب المدير العام، يتحدّث مصدر في المؤسّسة عن استحصال بعض المعاملات على توقيع خمسة مديرين عامين حتى الآن من دون أن ينجز منها شيء، بينما تحوّلت المهمّة الأساسية للمدير المكلّف وفقاً لهذه المصادر تأمين توقيعه الدائم على صرف رواتب الموظفين والأجراء. وربّما يكون هذا الهدف الوحيد من تعيينه، خصوصاً أنّ الفترة التي كلّف كلّ من المديرين العامين بتصريف أعمالها، ليست كافية للإطّلاع على ملفّات المؤسسة وواقع منشآتها المنتشرة في منطقة متنامية الأطراف.
وقد حدّدت مهلة تكليف جبران أخيراً بثلاثة أشهر فقط، يفترض أن تكون فترة إنتقالية فقط ريثما يتسلّم المهام من بعدها مدير أصيل. إلا أنّه ليس في الأفق ما يبشّر بذلك، أولاً بسبب الفراغ الحاصل في رأس هرم السلطة اللبنانية وما يترتّب عليه من تعطيل لمختلف مؤسّسات الدولة ومن بينها مجلس الوزراء الذي يفترض أن يعيّن مديراً عاماً ومجلس إدارة جديداً للمؤسّسة، ولكن أيضاً بسبب المناكفات السياسية التي تمنع التوافق الداخلي على أسماء مرشّحين لهذا المنصب، والذي يُحفظ عرفاً لكاثوليكي. علماً أنّ هذا العرف كما المناكفة السياسية حالا أيضاً دون تطبيق القوانين التي تنصّ على أن يتسلّم المركز في حالة الشغور الأعلى رتبة والأكبر سنّاً.
هكذا إذا تسلّم مهمّات مؤسّسة مياه البقاع منذ أكثر من عام مديرون عامون، يحملون بالأساس أعباء مؤسسات أخرى بالأصالة. ومن الطبيعي ألا يكون هؤلاء قادرين على تأمين حضور دائم في مركز مؤسّسة مياه البقاع، ما حوّلها وفقاً للمصادر إلى «وكالة من دون بوّاب»، بالكاد يحضر فيها الموظّفون إلى مكاتبهم، وخصوصاً في ظل ارتفاع كلفة الإنتقال، وغياب الحوافز التي تشجّعهم على ذلك، حتّى من ناحية تأمين الدفء الذي ينشده الموظّفون في مركز عملهم ليتمكّنوا من إنجاز مهمّاتهم.
وهذا ما يجعل إستمرارية العمل في مؤسسة مياه البقاع تقترن بمبادرات فردية وجهود شخصية يبذلها عدد قليل من الموظّفين ورؤساء الأقسام، والذين بحرصهم على حماية مصادر المياه وآبارها يحاولون تجنّب كأس العطش مع أهلهم. إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ المشاكل المتراكمة ليست أكبر من طاقة الأفراد على تحمّلها.
وفقاً للمصادر، فإنّ مجمل ما تجبيه المؤسّسة حالياً لا يكفي لتنفيذ أي مشروع، أو إصلاح أي عطل يطرأ على الشبكة، بل هو لا يكفي لسدّ فاتورة الكهرباء المستحقة شهرياً لشركة كهرباء زحلة، والتي ارتفعت بين شهر أيار2021 وأيار 2022 من 300 مليون ليرة إلى أربعة مليارات و300 مليون ليرة، علماً أنّ ديون مؤسسة مياه البقاع لشركة كهرباء زحلة تخطّت حالياً الـ 100 مليار ليرة، هذا عدا المستحقّات المترتّبة عليها لمؤسّسة كهرباء لبنان، ولصندوق الضمان الإجتماعي وغيرها.
في ظلّ هذا الواقع تشير مصادر المؤسسة إلى أنّ عدم ارتفاع صرخة صاخبة بشأن تراجع خدمة المياه، مردّه إلى الدعم الذي حصلت عليه المؤسّسة من الجهات المانحة وأبرزها اليونيسيف، التي تعهّدت منذ مدّة إصلاح كلّ الأعطال الطارئة على مضخّات المياه، وهو ما ساهم إلى حدّ بعيد بالحدّ من مشاكل تأمين المياه في معظم القرى، علماً أنّ اليونيسيف أمّنت لمؤسّسة مياه البقاع التجهيزات التي تسمح لها بإصلاح الأعطال التي قد تطرأ على الشبكة. إلا أنّه في ظلّ إحجام المستخدمين وموظّفي غبّ الطلب عن الإلتحاق بوظائفهم بذريعة أنّ الراتب لم يعد يكفي لنفقات الإنتقال إلى الوظيفة، تضطرّ المؤسسة للإستعانة بمتعهّدين من خارج كادرها الوظيفي لتشغيل هذه المعدّات، الأمر الذي يزيد الأعباء على ميزانيتها المتهالكة بالأساس.
وفقاً للمعلومات فإنّه خلال آخر حضور للمدير العام المكلّف إلى مؤسسة مياه البقاع، دُقّ ناقوس الخطر بناء لتقارير تلقّاها من الدائرة المالية، لعدم قدرة المؤسّسة على تأمين رواتب الأجراء والموظّفين ما لم تؤمّن الجباية اللازمة للأشهر المقبلة. وتضمّ المؤسّسة حالياً نحو 160 مستخدماً أكثر من نصفهم إقتربوا من سنّ التقاعد، بالإضافة إلى 220 موظّفاً غبّ الطلب. عدد كبير من هؤلاء نالوا وظائفهم كتنفيعة من الجهات السياسية، وبالتالي ليسوا مهتمّين بتأمين الإنتاجية.
هذا في وقت لا تتوقّع مصادر مؤسّسة مياه البقاع أن تتمكّن من تحسين الجباية بالشكل اللازم، وخصوصاً في ظلّ الواقع المعيشي المتردّي للمكلّفين عموماً، كاشفة أنّه قبل رفع قيمة إشتراك متر المياه من 300 ألف ليرة إلى نحو مليون ليرة، كانت نسبة الجباية في البقاع 33 بالمئة، إلا أنّها إنخفضت بعد رفعها إلى 27 بالمئة. وبالتالي تتخوّف مصادر في المؤسسة من تدنّي نسبة الجباية بشكل أكبر مع تحديد رسم اشتراك المتر بثلاثة ملايين و700 ألف ليرة حالياً، إلا أنها تعوّل على الجهود التي يمكن أن يبذلها الجباة، خصوصاً أنّ عدم الجباية يهدّد رواتبهم أيضاً.
وإذا كانت نسبة الجباية تحتسب بناء لعدد المشتركين، تكشف المصادر أنّ في منطقة البقاع هناك تقريباً 250 بئراً، تؤمّن كميّة 2500 ليتر ثانية من المياه، وهذه الكميّة من المياه تعتبر كبيرة، إذا ما قورنت بعدد المشتركين الذي لا يتعدّى عددهم الـ90 ألفاً، وهذا برأيها يشكّل دليلاً على نسبة الهدر وسرقة المياه التي تعانيها المؤسّسة أيضاً.
إذاً، مشاكل آبار جديتا التي تتغذّى منها أيضاً تعلبايا وسعدنايل، حاووز رياق، وبئر الكرك، التي ناقشها أبو حمدان مع مدير مؤسسة مياه البقاع بالتكليف، ليست سوى نتيجة لما عرض سابقاً، فيما بدء السير بالحلول يتطلّب وفقاً للمصادر خطة نهوض شاملة، تبدأ أولاً بإعادة الإستقرار الإداري للمؤسّسة تمهيداً لتأمين إستقرارها المالي، وذلك قبل أن تستنزف طاقة من لا يزالون يعملون باللحم الحي وبما تمليه عليهم ضمائرهم أولاً.