منذ أيام ذكّرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» بمعركة بنت جبيل التي جرت خلال حرب العام ٢٠٠٦، وسمّتها «المدينة الملعونة». آنذاك أرادت القيادة الإسرائيلية اقتحامَ المدينة ورفع العلم الإسرائيلي فوق ساحتها الرئيسة. كان المطلوب ليس إعادة احتلالها، بل زرع علم النصر فيها قبل إعلان بدء وقف النار في حرب الـ٢٠٠٦. دمّرت اسرائيل بقرار سياسي المدينة القديمة لبنت جبيل عن بكرة أبيها، ولكنّها فشلت في الحصول على صورة النصر داخلها.
لماذا بنت جبيل؟ لأنها تمثل لكلٍّ من إسرائيل و«حزب الله» صراعَ رمزيات، فمنها أطلق الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله خطابَ النصر عام ٢٠٠٠ وضمّنه مقولته الشهيرة بأنّ إسرائيل «أوهن من بيت العنكبوت»، وأعلن المدينة «عاصمة للمقاومة والتحرير».
وفي بنت جبيل أيضاً ردّت إسرائيل عام ٢٠٠٦ بتدميرها عن بكرة أبيها، وحاولت زرعَ علمها في ساحتها العامة كتعبير عن سقوط «عاصمة المقاومة» ومقولة «بيت العنكبوت».
خلال الانتخابات البلدية الأحد الماضي، اقترعت بنت جبيل على نحوِ أظهر بوضوح أنّ لديها اعتراضاً واسعاً على الطريقة التي أدار بها الحزب انتخابات بلديتها. لقد نال الفائز الأخير في لائحة التحالف بين «حزب الله» وحركة «امل» ٢٨٠٠ صوت، بينما نال أوّل الخاسرين من المستقلين ١٥٠٠ صوت من اجمالي المقترعين البالغين نحو خمسة آلاف.
وتُظهر القراءة السياسية لهذه الأرقام أنّ ١ في مقابل ٣ من المقترعين في بنت جبيل (الثلث) كان ضدّ التفكير السياسي والاجتماعي والإنمائي الذي وجّه إدارة «حزب الله» للمعركة البلدية فيها.
والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه داخل بيئات متنوّعة في المدينة، هو أنه طالما أنّ بنت جبيل تمثل رمزية معيّنة ومهمة داخل معادلة صراع المقاومة مع إسرائيل، فلماذا ذهب «حزب الله» الى معركة كسر عظم مع ثلث أبنائها، علماً أنه كان في مقدوره احتواؤهم عبر تسوية معهم تؤدّي الى إضافتهم الى لائحته التحالفية مع «امل»؟
ومن اللافت، أنّ الجهة المركزية في قطاع الجنوب التي كلّفها «حزب الله» بالتعاطي مع ملف بنت جبيل، كانت هي ذاتها التي تعاطت مع ملف إدارة انتخابات بلدية بلدة عيترون المجاورة لها.
وعلى رغم ذلك، فإنّ قرار الحزب في عيترون ذهب الى تسوية مع حالات الاعتراض والتنوّع البلدي فيها، بينما لم يفعل الأمر نفسه في بنت جبيل على رغم أنها الأهم في قضائها ديموغرافياً وإدارياً، وعلى رغم اتّسامها برمزية للحزب ولمقاومته داخل كلّ الديموغرافيا الشيعية في لبنان!
قصة «الحزب» وبنت جبيل
منذ العام ٢٠٠٠، أصبح «حزب الله» هو العائلة الأكبر في مدينة بنت جبيل، وتتحدّث تقديرات عن وجود نحو ٢٠٠٠ الى ٢٥٠٠ محازب له من أبنائها. كما أنّ فضاء المدينة الاجتماعي بكلّ تلاوينه داعم للمقاومة.
وتجدر الملاحظة إلى أنه يتمّ احتساب هذه الأكثرية العدديّة للحزب، انطلاقاً من واقعها الديموغرافي المقيم، إذ إنّ نسبة الهجرة من بنت جبيل الى اميركا وافريقيا والخليج تبلغ نحو ٦٥ في المئة.
وقد وضع المؤرخ الدكتور أحمد بيضون كتاباً تحت عنوان «بنت جبيل – ميشغن»، للتدليل على أنه يقيم في هذه المدينة الاميركية (ميشغن) وحدها، نحو خمسة أضعاف أعداد قاطني بنت جبيل المسكونة بنحو اربعة آلاف من أبنائها وبعدد يفوقهم قليلاً يقيم في بيروت.
إنّ أكثر من نصف سكان بنت جبيل مهاجر، وربعهم تقريباً في بيروت، وأقلّ من ربعهم المتبقي يقيم في عاصمة التحرير والمقاومة. وداخل ديموغرافيا هؤلاء الربعين الأخيرين اللذين هما تعداد سكان اجتماع بنت جبيل المقيم فيها وفي لبنان، يُعتبر «حزب الله» هو العائلة الأكبر عددياً، في مقابل عائلات المدينة التي كانت تتّسم بالتماسك الاجتماعي ووفرة العدد قبل تعاظم هجرات أبنائها منذ سبعينات القرن الماضي.
فعائلة بزي الأكبر في بنت جبيل، تعدّ أيضاً من عائلات لبنان الأكبر (٨ آلاف نسمة). وتنفرد بسمة لا تملكها أيّ من عائلات لبنان الكبيرة، وهي أنّ أفرادها جميعاً هم من بنت جبيل حصراً.
وحتى اليسار اللبناني حين دخل الى بنت جبيل تموضع داخلها استناداً لمربعات توزيعاتها العائلية (الحزب القومي استند لعائلة بيضون والبعث لآل بزي وشرارة والشيوعي قصدا العائلات الأصغر، الخ…). ولكنّ «حزب الله»، مع دخوله المباشر اليها عام ٢٠٠٠، لم يكن مضطراً للتعامل معها كوحدة اجتماعية عائلية، نظراً لأنّ عائلات المدينة كان شتّتها تسونامي الهجرة، لدرجة جعل مركزها الديموغرافي موجوداً في مدينة ميشغن الأميركية. وبذلك اصبح «حزب الله الاجتماعي والعقائدي» أكبر تعبيرات اجتماع بنت جبيل المقيم.
وما حدث خلال معركة انتخابات بلدية بنت جبيل لجهة نتائجها ومسارات لعبة التنافس فيها، أظهر أنّ هناك اعتراضاً اجتماعياً من «مستقلّي المدينة ومجموعات من عائلاتها ويسارها» على التطبيقات الممارسة من الحزب وعائلته الأكبر فيها، لجهة إدارة شؤونها البلدية والإنمائية والداخلية.
تجدر الاشارة الى أنّ الصراع الانتخابي في المدينة، لم يطرحه المستقلّون انطلاقاً من خلفيات سياسية، بل اتّسم بطابع اجتماعي صرف.
ولكنّ هذه الحقيقة لا تقلّل من المعاني السياسية التي ينطوي عليها، نظراً لخصوصية بنت جبيل التي تجعلها دائماً تُمارس السياسة انطلاقاً من تعبيرات هويّتها الاجتماعية في محيطها الجنوبي واللبناني.
وأكثر الحريصين على الحزب يعتبرون أنّ أداءه الانتخابي في المدينة أظهر عدم فهم عميق لتجذّر الوعي الاجتماعي فيها، وأنّ عدم مراعاته لهذا الجانب سيجعله في تباين معه.
ويقدّم هؤلاء ملاحظات عدة مستقاة من نتائج انتخابات بنت جبيل البلدية للدلالة على ما يؤشرون اليه:
الاولى – ظهر للمرة الأولى أنّ بنت جبيل انقلبت على التسليم بمعادلة أنّ الحزب هو العائلة الاجتماعية الأكبر فيها، بدليل أنّ نسبة التصويت في المدينة لم تتجاوز الـ٣٥ في المئة (الناخبون المسجّلون ٢٣ الف ناخب اقترع منهم ٥ آلاف)، وحصد المستقلون منها ما يزيد عن ثلث أصوات المقترعين.
وتقدّم داخل اللائحة الفائزة غير الحزبيّين على الحزبيّين، بمعنى أنّ الذين زكّى الحزب ترشّحهم على لائحته الائتلافية مع حركة «امل» في معظمهم حلّوا أخيراً.
ثانياً – بلغ عدد المرشحين المستقلّين المعترضين على لائحة «حزب الله» وحركة «امل» سبعة مرشحين، وهؤلاء لم يجمعوا أنفسهم ضمن لائحة واحدة.
وهذا يؤشر الى حرصهم على عدم إظهار أيّ بُعد سياسي لمعركتهم وحصرها ببعد اعتراضي واجتماعي وانمائي ومطالبة الحزب خصوصاً والحركة تالياً، باتّباع شفافية أوضح في ادارة الشأن البلدي الانمائي.
وكان ابرز المرشحين السبعة أمين مروة، وأهميّته لا تتأتى من كونه كان الأول بين المستقلين الراسبين، بل لكون الأصوات التي نالها (الثلث) تعبّر عن حجم الاعتراض الاجتماعي في بنت جبيل ونوعيّته السياسية والاجتماعية، الخ.
أمين مروة كان عضواً في مجلس البلدية السابق. وكان فاز حينها كمستقل على لائحة التحالف التي شكّلها «حزب الله». وبرز خلال الولاية السابقة «كمشاكس» للاتجاه العام للقرارات فيها، معتبراً أنه بذلك يخدم المصلحة العامة لمدينته على نحو أفضل.
وفي هذه الدورة خاض مروّة الانتخابات مستقلاً، وحصد ثلث أصوات المقترعين. وتُظهر عملية تشريح أصواته أنها مزيج من ثلاثة أنواع من الاعتراضات:
1- اعتراض اجتماعي ضدّ الاستخفاف بقرار اجتماع البلدة بكلّ تنوّعاته، وعدم أخذه في الاعتبار خلال رسم مستقبل مجلس بلديّتها.
2- اعتراض شبه سياسي يمثله اليسار وتيار المجتمع المدني.
3 – اعتراض قوامه أصوات حصل عليها مروّة من داخل عائلة الحزب الأكبر في بنت جبيل، أي من داخل تنظيم الحزب في المدينة. وهذا الاعتراض الأخير ربما كان هو الأكثر تعبيراً عن الخلل الذي يمكن أن يُشوّش سلاسة مجمل منظومة علاقة الحزب بعاصمته الرمزية، لغير اعتبار، أبرزها أنّ الخلل الاجتماعي الذي نشأ بين الحزب والبلدة قد تؤدي تداعياته الى إحداث خلل داخل بنيته التنظيمية، من خلال خلق نزاع داخلها بين عواملها الاجتماعية، ما يجعل عاملها العقائدي أقلّ أثراً في شدّ لحمتها.
وكون بنت جبيل هي من أكبر معاقل الحزب تنظيمياً، تضاف اليها رمزيتها داخل خطاب المقاومة وامينها العام، فإنّ ذلك يقود الى الاستنتاج بأنّّ قيادة الحزب ستدرس جيداً نتائجها الانتخابية البلدية، نظراً لآثارها المباشرة عليه من أكثر من جانب.
ثالثاً – يبرز التصويت في انتخابات بنت جبيل البلدية أنّ الحزب كانت له دالة اكبر على مقترعيها المقيمين في بيروت، قياساً بدالته على الناخبين من أهلها المقيمين فيها، علماً أنّ الاخيرين بفعل إقامتهم في البلدة يمثلون المادة الاجتماعية الاكثر حرصاً على قضيتها الانمائية.
خلاصة القول إنّ قراءة نتائج الانتخابات البلدية في بنت جبيل تكتسب أهميتها سياسياً من كونها على صلة بموقعها الرمزي كعاصمة للمقاومة، وأيضاً اجتماعياً من كون الحزب يمثل فيها أكبر عائلة انتخابية، وعليه فإنّ العامل الاجتماعي في دلالات رسالتها لـ«حزب الله» يمتزج بالعامل السياسي.
وثمة رهان في بنت جبيل على أنّ رسالة ثلثها المعترض اجتماعياً ستصل إلى رأس هرم قيادة الحزب لتصحيح أخطاء لم تنتهِ تداعياتها برأيهم مع انتهاء الانتخابات، لأنّ ما حدث هو رسالة يشترك في إطلاقها اجتماع عاصمة المقاومة وشرائح داخل تنظيم الحزب الذي يلعب في الوقت نفسه دور عائلته الاكبر في المدينة، اضافة إلى فئات اجتماعية من المجتمع المدني واليسار والمستقلّين تعيش سياسياً على ضفافه وتدعم خياراته السياسية الكبرى.