برلين ستنقسم مجدداً: برلين شرقية وبرلين غربية. وبينهما سيمتد الجدار في المكان نفسه على طول 15 كيلومتراً. ولكن بدل “جدار العار” الاسمنتي سيرتفع هذه المرة لمدة ثلاثة أيام “جدار الضوء”، مع ثمانية آلاف بالون تعلّق فوق بقايا أحد أهم رموز الحرب الباردة ، على أن تطلق في سماء العاصمة الموحدة في التاسع من تشرين الثاني حاملة كثيرا من قيم السلام والامل.
يحق لبرلين ان تحتفي بربع قرن على سقوط جدارها بكثير من الفخر والقليل القليل من الحنين. 25 سنة تكاد تكون كافية لإعادة توحيد المدينة ومحو جزء كبير من الفروق بين شطريها. جيل واحد لم يعرف الا برلين واحدة، فيما الاجيال الاخرى لم تعد ترى فروقاً كبيرة بين البرلينَين. وحتى حنينها الى يوميات ذلك الماضي القريب يتراجع أكثر فأكثر كلما تقدم الجانبان نحو المساواة في التعليم والصحة وفرص العمل وغيرها.
قليلة هي المدن حول العالم التي عانت ما عانته هذه المدينة وتمكنت من النهوض مجدداً بهذه السرعة. ساحة “بوتسدامر بلاتس” التي دمر منها نحو 80 في المئة خلال الحرب، باتت بعد توحيد المدينة أكبر ورشة في أوروبا لتصير اليوم القلب النابض لأقوى اقتصاد أوروبي، مع هندسة تتطلع الى المستقبل ولا أثر فيها للحرب. “جدار العار” أو ما تبقى منه صار محجة للسياح، بعدما فتح سقوطه آفاق السلام في اوروبا والعالم. وعلى رغم عودة نبرة الحرب الباردة في السياسة الدولية واكتساب رموز تلك الحقبة أهمية متزايدة مع تجدد الاستقطاب بين المعسكرين السابقين، لا شيء في المدينة يوحي بالعودة الى الوراء.
الذكريات تملأ المدينة. في كل شارع من شوارع برلين متحف أو نصب او كنيسة أو ساحة أو مبنى يروي فصلا من فصول التعذيب أو الحرب أو التقسيم أو الوحدة. صور الشبان يقطعون الاسلاك ويهدمون الجدار بسواعدهم والمعاول تملأ حديقة السور.
تلك الثورة السلمية التي غيّرت وجه أوروبا والعالم ألهمت كثيرا من الشعوب التوّاقة الى الحرية. وكان بديهيا أن تصل عدواها الى العالم العربي. من تونس الى اليمن وليبيا ومصر، أسقطت الشعوب الجدران التي أٌقامتها الانظمة، غير أن طريق “الوحدة” في هذه الدول لا تزال طويلة ودونها عقبات. وفي سوريا حيث يدافع النظام عن “جداره” بالنار والبارود، خرجت الثورة عن مسارها وتحولت حرباً شعواء تكاد تغرق المنطقة بكاملها.
عندما سقط جدار برلين قبل 25 سنة تحررت أوروبا من أخطائها التاريخية التي ارتكبت في الحربين الكبريين الدمويتين. ومن الواضح أنها تسعى مذذاك الى الافادة من الفرصة الثانية التي أتيحت لها. وبعد أربع سنوات من الفوضى والدمار، هل يمكن العالم العربي أن يحلم بفرصة كهذه بعد؟ أو لا يزال ممكناً وضع حد لموجة الجنون والتعصب التي تعمي العقول والقلوب؟