كلما لاح أمل في إمكان عودة الرشد الى الطبقة الحاكمة، قارعه فشل بإصرارها على النهج ذاته وعقلية التملّك والأنانية السياسية والحزبية، التي رمت البلد في الدرك الأسفل.
راهن اللبنانيون ان تكون السلطة قد ارتدعت، بعد 17 تشرين الأول، حينما هزّ الناس شجرة هذه السلطة، ولكنهم خسروا الرهان، وذهبت صرخاتهم ومطالبهم أدراج الرياح، وعادت الطبقة الحاكمة لتحبس الناس من جديد خلف قضبان الإحباط واليأس.
قبل 17 تشرين كان وضع البلد سيئاً، والسلطة بأدائها وارتكاباتها وصفقاتها ومحميات فسادها واختلاساته، ضربت اللبنانيين مالياً واقتصادياً واجتماعياً ومعيشياً. وبعد 17 تشرين، صار هذا الوضع أسوأ واكثر صعوبة وضيقاً وتعقيداً، مضافاً اليه فيروس «كورونا»، الشريك الثاني للسلطة، الذي يكمّل على البقية الباقية ويتولّى ضرب اللبنانيين صحياً.
مع تفاقم الأزمة، اعترف الحكّام بهزيمة ادائهم، وخدّروا الناس بأنّهم سيغيّرون ويصحّحون ويُصلحون، لانّ لبنان لم يعد يملك ترف تضييع الوقت. العلاج مطلوب وملح، لكن رحلته تتطلب سنوات، وكل يوم يمضي بلا خطوات علاجيّة سريعة، يكلّف لبنان أثماناً باهظة تأكل من عمر البلد سنوات وتُدخله تلقائياً الى نادي الدول الأشد تخلّفاً.
طارت حكومة سعد الحريري، وشُكلّت حكومة حسان دياب، على قاعدة انّ ما كان سائداً في السابق ممنوع اليوم، وما كان يصلح في الماضي لا يصلح الآن، والأزمة باتت توجب الإستفادة من سنوات الفشل السابقة، والانتقال الى الدولة النظيفة، بأداء نظيف، وعقلية نظيفة ومسؤولة، تغلّب النزاهة ومنطق الجدارة والكفاءة على الحزبية والمحسوبية والمحاصصة، في كل الخطوات والإجراءات.
بموازاة تلك القاعدة، ثمة نصيحة «صديقة» أُسديت الى بعض «الكبار» تقول، «فتيل الناس يشتعل، فاحذروا غضب الجائعين، الناس تريد دولة عادلة، عنوانها: حاكمٌ جامع، حَكَمٌ عادل، حكيمٌ في قراراته وتوجّهاته، محكومٌ للقانون ولمصلحة البلد واهله، وليس متحكّماً ومغلولاً بحزبيته، او معانداً لطرف ومسايراً لآخر، او يرى بعين واحدة، يصوّب فقط على ما يعتبره فساد الأبعدين ويدعو لإقفال ابوابه، ويتعامى على فساد الأقربين، فتبقى ابوابه مفتوحة على مصاريعها»!
ولكن، ما الذي حصل؟
منذ ذلك الحين، صورة البلد ثابتة في مربّع الجمود، لا خطوة الى الأمام، بل خطوات شابتها التباسات وسلبيات اعادت الامور الى الوراء. والإصلاح الموعود بقي مؤجّلاً، مناقضاً كل الوعود التي أدرجته في خانة المعجّل:
اولاً، البلد في ضيق خانق، والموازنة هي الباب لتأمين الموارد، حتى ولو كانت متواضعة، ولكن ما حصل انّ موازنة 2020 – التي أُقرّت بشق النفس، وبالكاد وصل النواب الى مجلس النواب لإقرارها – تتجمّد شهراً، بذريعة عدم إقرار قطع الحساب، والنتيجة صرف على القاعدة الاثني عشرية، في كانون الثاني وشباط، على اساس موازنة 2019، ولم يدخل قرش واحد الى خزينة الدولة.
ثانياً، الحكومة، تبدو وكأنّ همّتها الإصلاحية قد تراجعت، لجان خلف لجان، واجتماعات خلف اجتماعات، وحضور مكثّف خلف الكاميرات، ولا خطوات بل مراكمة وعود اضافية، ولم تقدّم للناس شيئاً ملموساً حتى الآن، الناس تسأل متى ستبدأ الحكومة عملها؟ ويشاركهم السؤال بعض اهل البيت السياسي الذي يغطّيها.
ثالثاً، الإرباك في التعاطي مع الملف المالي، والضعف المريع امام المصارف، مرّ قطوع السندات، ولم يمرّ بعد قطوع «الهيركات»، وثمة من يقول انّ النقاش حوله عميق وخطير في بعض الغرف المقفلة.
رابعاً، السقوط في امتحان التشكيلات القضائية، بعد بروز العامل السياسي المعطّل لها، والذي يؤشر الى انّ ثمة من يصرّ على هذا المنحى، ويُخشى انسحابه على سائر التعيينات الإدارية الموعودة، ما قد يعطّلها بالكامل، وساعتئذٍ «تخبزو بالفراح» على ما يقول الناس.
كانت التشكيلات القضائية «بروفة مصداقية» للسلطة الحاكمة، مجلس القضاء الأعلى سعى لإنجاز نقلة نوعية، مراعياً معايير الشفافية والكفاءة والدرجة، ومن دون تدخّلات سياسية. وزيرة العدل قالت انّها لن تتدخّل، لكنها عادت بالأمس وردّتها الى مجلس القضاء لأسباب تقنية. هي تقول ان لا تدخّلات سياسية، لكن كثيرين يقولون في المقابل انّ «الفيتو» على التشكيلات، صدر «من فوق»، لانّها جاءت على غير ما يشتهي بعض القضاة المحسوبين.
وبقدر ما انّ تعطيل التشكيلات بهذه الطريقة، يُعدّ سقوطاً لبعض السلطة في امتحانها، فهو في الوقت نفسه، يُعدّ ضرباً للسلطة القضائية ومسًّا بهيبتها وصدقيتها ونزاهتها واستقلاليتها، التي توجب ان تكون بمنأى عن اي تدخّلات سياسية فيها، وخصوصاً في الزمن الإصلاحي الموعود، حيث للقضاء دوره الضامن لهذا الزمن وهدفه الاول بمكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين والمفسدين. وبالقدر نفسه ايضاً، يُعدّ ضرباً للحكومة وهيبتها، ولرئيسها الذي يرفع لواء الإصلاح، ووعد انّه لن يتدخّل بأي اسم في هذه التشكيلات، وانّه سيوقّعها فور وصولها اليه وحتى من دون الإطلاع عليها.
صدى التعطيل، كان في منتهى السلبية في عين التينة. الرئيس نبيه بري عوّل على هذه التشكيلات بأن تكون اول علامة ضوء في الفضاء الداخلي، وفاتحة لإصلاحات وتعيينات بلا تدخّلات، تلغي قاعدة «عالسكين يا بطيخ»، والتي يبدو انّ بعض القوى السياسية ما زالت تصرّ على اتباعها. فإذا كانت البداية على هذه الصورة مع التشكيلات القضائية، فماذا سنقول للحراك الذي طالب بقضاء مستقلّ لا يتحكّم به السياسيون، وماذا عن سائر التعيينات اذا ما كان توجّه البعض في السلطة الى ملئها بالمناصرين والأقربين؟
يرفض بري بشكل قاطع التدخّل السياسي في السلطة القضائية، لا في التشكيلات ولا في اي عمل يتصل بها وبما تقرّره، وهو أمر مارسه حينما كان وزيراً للعدل في عهد الرئيس امين الجميل. وفترة ولايته التي كانت الاطول على رأس الوزارة واستمرت لست سنوات، يعرضها في كتاب مذكراته (أسكن هذا الكتاب) كما يلي:
«في بداية عهدي في وزارة العدل، استدعيت وجيه خاطر وقلت له: من الآن فصاعداً، القضايا الإدارية في الوزارة هي مسؤوليتك. كما استدعيت رئيس مجلس القضاء الاعلى الشيخ امين نصّار وقلت له: دعنا نضع القانون والدستور جانباً، اريد ان اتفق معك على أمر، وهو أنني اريد ان يكون مجلس القضاء الاعلى هو وزير العدل، ومهمتي انا الوزير الاصيل، تقتصر على التوقيع فقط، اما القضاء الواقف، اي النيابات العامة والتفتيش، فممنوع ان يخاطبوني الّا كتابياً، وبدوري انا اردّ عليهم كتابياً».
يضيف بري، بحسب الكتاب: «كما انّ هناك شرطاً ثانياً، فطالما انا وزير للعدل، فإنّ تعيينات كتّاب المحاكم والمساعدين القضائيين والقضاة وما الى ذلك، كلها تتمّ وفق مباراة، ولا يجري تعيين سوى من ينجح فقط ومن دون ان تُراعى الطائفية، كما انّ الوساطات ممنوعة، ومجلس القضاء الاعلى هو الذي يقرّر التشكيلات القضائية، ولا أحد غيره، فلا اريد ان تدخل الطائفية الى القضاء، فلنتركه كسلطة مستقلة، فهل في امكانك ان تتحمّل هذه المسؤولية؟».
يتابع بري في كتاب مذكراته قائلاً: «الشيخ امين نصار من بكفيا، اي من بلدة الرئيس امين الجميّل، وقد قال لي آنذاك: اذا أمّنت لي التغطية فإنني على اتمّ استعداد لتحمّل هذه المسؤولية. فقلت له: أنا اغطيك، فلا تكترث. وبالفعل مشينا على هذا المنوال، وتلك الفترة اعتبرها الفترة الذهبية للقضاء. وفي آخر الأمر اجرينا احصاء حول امتحانات القضاء والكتّاب والمساعدين القضائيين، فوجدنا انّ الفارق في العدد بين المسلمين والمسيحيين «واحد» فقط. والمضحك المبكي، هو انني بعد فترة رويت هذه المسألة امام بعض الأشخاص المتمسكين بنظرية الطائفية، فسألوني: هذا «الواحد»، من اي طائفة»؟!