عاد الرئيس نبيه برّي وبعد قراءة مستفيضة لنتائج الانتخابات إلى أطروحة النسبيّة كمحتوى جوهريّ لقانون الانتخابات، والعودة إليها تنمّ عن فهم دقيق لمزاج الناس المتمرّد على سياق سياسيّ لا يزال جامدًا ومتلقيًّا لكلّ الإملاءات في ظروف دقيقة ومعقدة، فضلاً عن قراءة معمّقة أبداها بري مع مجموعة من الخبراء والأصدقاء وتشعّب بها كما أظهرت بعض المعلومات إلى ما ينتظره لبنان من احتمالات قد تقوده إلى تفلّت أمنيّ عميم بعدما تمّ إلقاء القبض على شبكات تنتمي بمعظمها إلى تنظيمات تكفيريّة كانت تخطّط لتفجيرات وعمليات انتحاريّة بين الضاحيّة الجنوبيّة وبعض أحياء بيروت، فبدا وكأنّنا نعود إلى المربّع الأوّل، أي إلى اللحظة ما قبل الاستقرار المولود من رحم تسوية هشّة تكرّست مع حكومة الرئيس تمام سلام بحدود معيّنة، إلى أن ذوى الاستقرار وتجوّف مع تراكم العناوين بكميّاتها.
تلك الأصداء الواردة من عين التينة، تشي بأنّ برّي على إدراك تامّ بأنّ الأزمة لم تعد أزمة سلطة وحكم بل تجاوزت هذا المعطى الماضويّ حديثًا، إلى معطى يقول بأنّنا أمام أزمة وطن ووجود. تلك هي الحقيقة الواقعيّة الواضحة في السلوكيّات المتضاربة القائمة عند معظم الفرقاء في لبنان. لم يعد بمقدور برّي ولا سواه معالجة تلك الأزمة بخطاب جامد ليس فيه حركة جديدة، فأزمة السلطة شيء وأزمة الوجود شيء آخر وهي الأخطر. أزمة السلطة بتعريف واضح قابلة للحل بالحيّز الديمقراطيّ في واقعه المعقول والمقبول عند الجميع، أو بمجموعة تسويات تحوي بعضا من هدوء، ويعرف برّي وكثيرون بأنّنا في لبنان مررنا بأزمات سلطة أو حكم وتمّ إيجاد الحلول لها سواء باتفاق الداخل أو بالتماهي ما بين الداخل والخارج. لكن حين يبدو لبنان مكشوفًا إلى هذا الحدّ بالمعنى الأمنيّ، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنّ القوى الأمنيّة بذلت وتبذل قصارى جهودها للحدّ من جموح القوى التكفيريّة والحدّ مع إلقاء القبض على شبكاتها من أي ضرر ممكن، وحين يختلط الانكشاف بالفراغ، ويختلط الفراغ بواقع شاذّ قائم على تمديد لا شرعيّ لمجلس من طبقة لم تحترم إرادة الناس، وحين يختلط كلّ هذا بنتائج الانتخابات البلديّة وبعضها بدا بمثابة الزلزال على المستوى الميثاقيّ قبل أن يكون على المستوى البنيويّ، فإنّ رأس السلطة التشريعيّة يدرك توّاً بأنّ الأزمة الوجوديّة العاصفة بكياننا بامتياز تقتضي بصورة جذريّة التفكير العميق بجوهرها وليس بظواهرها، والجوهر في الإطار السياسيّ-الدستوريّ قانون انتخابات يؤمّن النسبيّة بين اللبنانيين والنسبيّة بين الطوائف.
ويظهر المقرّبون من برّي أنّه فهم الرسالة مع سقوط الأحجام السياسيّة الداخليّة عربيًّا ودوليًّا، وقرأ نتائج الانتخابات في طرابلس كحقيقة دامغة استند إليها لفرط العقد مع الرئيس سعد الحريري وجزء من هذا العقد مبنيّ على القانون المختلط بين النسبيّ والأكثريّ. ومن نوافل الأمور وبحسب بعض المعطيات ان يكون برّي قرأ القانون المختلط على أنّه هجين بإطاره الدستوريّ وانعكاسه السياسيّ والأمنيّ، وقد قال عنه خبير دستوريّ بأنّه يمثّل قمّة المروق والهرطقة بالخصوصيّة الدستوريّة المؤسّسة للنظام السياسيّ اللبنانيّ، وظهر له بأنّ التعايش بين آليّتين متناقضتين بالجوهر ومنفصلتين بالشكل مستحيل وعدميّ، ولن يولد منه سوى الانفجار على المدى القصير مع ارتباط لبنان بأزمة المنطقة. وليس خافيًا عن دولته بأنّ المنطقة ستذهب إلى لحظات تكوينيّة جديدة تتجسّد على الأرض بتسوية دولية كبرى تنطلق من النتائج الميدانيّة، وقد بدأت الإشارة إليها مع مطلب ضررويّ حكي عنه في سوريا ومعها يقوم على كتابة دستور جديد، وحين يتكلّم على دستور جديد فمعنى ذلك أنّه يتكلّم على نظام جديد متوازن بمضمون شركويّ أي قائم على الشراكة المطلقة بين معظم المكوّنات الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة لسوريا، وهذا سيعم في حقيقته لبنان والعراق. من شأن برّي أن يستلهم تلك الرؤى بامتداداتها الأفقيّة والعموديّة ويدرك بأن لبنان ليس منفصلاً عن سياق كامل، بل هو جزء عزيز فيه. فتماهى بهذا المعنى مع أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله في خطابه الأخير وتبنّى مشروع النسبيّة بصورة استباطية واستشرافيّة يؤسّس لنظام سياسيّ جديد.
ويظهر كلّ ذلك وكأننا في الحقيقة أمام قراءة تكوينيّة جديدة للسلطة السياسيّة في لبنان. سيتطلّب هذا الأمر وبحسب بعض الخبراء الذهاب إلى مؤتمر وطني كبير، والحاجة إليه باتت ضروريّة في مسرى الأمور المتشنجة والملتهبة في المنطقة. ذلك أن علاقة الطوائف اللبنانيّة بحقيقتها الزمنيّة وبحيّزها السياسيّ غير سليمة على الإطلاق، ويجدر من الجميع الاعتراف بأنّ الميثاق بالسلوكيات وليس بالأساس قد عطب وبدت عليه الندوب وأثخن بالجراح، ويحتاج، تاليًا، لعلاج دقيق لينهض متوازنًا أنيقًا حيًّا ومتفاعلاً في الوجود السياسيّ. شيء من لبنان المسيحيّ تآكل، وبفعل تآكله فقد بدا لبنان الإسلاميّ في أزمة وحيرة هائلة على الرغم من أن بعضهم مستمرّ في غيّه وتصرّفه بشكل آحاديّ ومطلق. إن القضيّة لم تعد خاضعة لمشيئة تسوويّة يظهرها اللاعبون على الأرض بالتماهي مع الخيارات الدوليّة والإقليميّة غير الواضحة، بل يجب أن تتجلى بعمل جذريّ يعيد لبنان المسيحيّ ولبنان الإسلاميّ إلى نسيج واحد وحالة واحدة.
أولى علامات الحلّ، ما بدأ برّي يدركه أو يعيده إلى أرض النقاش كما فعل السيد حسن نصرالله قبله، وهو العودة إلى النسبيّة الكاملة إمّا بلبنان دائرة واحدة وهذا المشروع كفيل بخلاص لبنان من كل احتراب ممكن وهذا ما أعلنه الرئيس السابق للجمهوريّة العماد إميل لحوّد في لقاءاته، أو بمشروع الرئيس نجيب ميقاتي أي نسبيّة مع ست عشرة دائرة. ويبقى السؤال كاستكمال للنقاش الدائر ألم يطرح مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ لبنان دائرة واحدة والنسبيّة المطلقة فأين تكمن المشكلة إذًا؟
المشكلة وبحسب مصدر سياسيّ «أنّه سمي بمشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ»، ويقول فيه قائله بأن كلّ طائفة تنتخب ممثليها». العماد ميشال عون ونائب رئيس المجلس النيابيّ سابقًا إيلي الفرزليّ المعروف بتشدده العروبيّ، وأمين عام اللقاء الأرثوذكسيّ مروان أبو فاضل، في مناسبات عديدة أظهروا بأن تجسيد هذا المشروع قائم على النسبيّة ولبنان دائرة واحدة فما هي المشكلة إذا انتخبت كلّ طائفة ممثليها بإطار نسبيّ ايضًا؟ لقد قال السيد نصرالله بأن النسبية تبطل الآحاديات في الطائفة الواحدة وفي العلاقة بين الطوائف، بهذا المعنى فإنّ مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ يملك القدرة بالمعنى الدستوريّ والعلميّ-الدقيق على تحقيق تلك النسبيّة وإبطال الآحاديات بإطلاقياتها وشراستها المهيمنة والاتجاه وكما قال سماحته إلى تحقيق ثنائيات وثلاثيات، فتشترك النخب كلّها في السلطة بدلاً من النأي بها خارجًا ورميها على قارعة الطريق.
المصدر السياسيّ عينه رأى بأنّ ساعة الحقيقة قد دنت. والرئيس برّي متحسّس بدنوّها وثقلها وآفاقها المغلقة، ومتلمّس لصعوبة ما ينتظر لبنان أمنيًّا ويعيشه اقتصاديًّا في لحظات قاسية وحارقة في الإقليم الملتهب، ومتهيّب لواقع انفراط العقد الداخليّ ووصولنا إلى ما يطلب منّا دوليًّا على مستوى فرض العقوبات على حزب الله كشريحة كبرى وأساسيّة في لبنان، أمام كلّ ذلك تراه الأوساط يسرع بغير تسرّع ويقيس الخطوات من الميدان إلى كلّ ميدان ويستنبط ويستشرف بعيدًا عن الذاتيّات المنتفخة هنا وثمّة. أمام كلّ هذا وطالما أن بري نظر إلى هذا الأمر بعد جلسة اللجان المشتركة وأطلق موقفه فإنّه ولا شكّ ينتظر بأن القاعدة الأساسية لها والركيزة الحقيقيّة هي المناصفة الفعليّة بين المسيحيين والمسلمين الضامنة لبقاء الجميع ضمن فلسفة المناصفة والديمقراطيّة الميثاقيّة، ولعلّ نتيجة طرابلس المنعكسة سلبًا على الحضور المسيحيّ تؤكّد الحاجة الماسّة إليها، والمناصفة بفعل ذلك من شأنها أن تكون جوهر النسبية وقلبها ودمها في لبنان دائرة واحدة.
فيا دولة الرئيس أنت أمام أمرين:
1- إمّا أن تتكرّم وتبادر للدعوة إلى جلسة عامّة للمجلس النيابي والشروع بمناقشة هذه المسألة حتى ولو طال النقاش وحميَ وبلغ الصراخ قبّة السماء، فالمجلس النيابيّ هو المحراب للحوار الوطنيّ، وفيه تتمثّل القوى السياسيّة كافّة، حتى يتمّ إقرار قانون يؤمّن العدالة والمناصفة والنسبية للجميع سموه كما تريدون.
2- أو التكرّم بالدعوة إلى مؤتمر وطني يضمّ الأقطاب مع نخب سياسية ودستوريّة وشخصيّات مفكرة للوصول إلى هذا المشروع ومن ثمّ يتم إقراره في المجلس النيابي.
ويتمّ كل ذلك بالإزاء مع انتخاب رئيس للجمهوريّة قويّ وفاقيّ فاعل قادر على الحكم بالتواصل مع الجميع. ساعة الحقيقة قد دنت فلا تتركوا لبنان يحترق، لأنه يحتاج إلى حبنا وإخلاصنا، والمنطلق الوحيد لتجسيد الحب أن نترك العقل يعمل ويجتهد ويتنزّل إلى القلب بهدوئيّة تامّة ليبوح بما عنده من مكنونات وينضح بالرؤى الصالحة فتستقيم الحلول وننصف الناس، ونعيد البلد إلى مساحة البهاء فيطلّ إلى الوجود مكلّلاً بالفجر المضيء.