البلد غارق في الأقاويل والقيل والقال، والمخيّلات شغّالة في رسم سيناريوهات وروايات لِما حصَل مع الرئيس سعد الحريري، وغالبيتُها يَغلب عليها الطابع البوليسي. ويبدو أنّ هذا الغرق سيطول، خصوصاً وأنّ «الحقيقة الكاملة» لِما حصل، مفقودة، لا بل محكومٌ عليها بالسجن المؤبّد داخل مغارة الأسرار الحريرية.
وسط هذا الجو، يبدو مستحيلاً تجميع أجزاء الرواية الكاملة لِما باتت توصَف بـ«التجربة الصعبة والقاسية» التي مرّ بها الحريري، وهو التوصيف الذي يتّفق عليه المحيط العائلي والسياسي لرئيس الحكومة، وكذلك كلّ المستويات الرئاسية، تبعاً للتفاصيل التي وقفت عليها، سواء من الحريري نفسِه، ومن المراجع الاقليمية والدولية التي دخلت بكلّ قوّتها السياسية والمعنوية على خط منعِ هذه التجربة من ان تتفاقم الى ما هو أسوأ.
ونجَح هذا الإجماع الدولي، معطوفاً على الإجماع الداخلي الذي تجلّى بصورة لا سابقة لها في لبنان ببُعدها السياسي والعاطفي والانساني والتضامني مع قضية الحريري، في حرفِ المسار اللبناني عن وجهة السقوط في الهاوية الخطيرة. ونحا به نحو الوضع شِبهِ الطبيعي الذي يعيشه لبنان في هذه الفترة وتحت عنوان «التريّث» في الاستقالة.
قيلَ القليلُ عن هذه «التجربة الصعبة»، ومن تسنّى له اللقاء برئيس الحكومة يلاحظ آثارها الثقيلة على الرَجل، وهؤلاء قلّة محدودة جداً، وما جرى خلال هذه التجربة حضَر في لقاء الحريري مع الرئيس ميشال عون في جلسة أبويّة، ومع الرئيس نبيه بري في جلسة عاطفية وودّية الى ابعدِ الحدود، ومع المحيط العائلي الذي بات عارفاً بكلّ عناصر ما تسمّى بـ«المؤامرة الكاملة» وبمن أعدّها وصاغَها ومن هم ابطالها، وبمن وشى ومن سرّب ومن خرَق ومن حرّض، ومن اعدّ نفسَه لمواكبة تداعياتها في الداخل اللبناني. وكذلك مع من أثبتوا خلال هذه التجربة أنّهم في صفّ «المحبّين» و«الأوفياء» و«الصادقين» في انتمائهم له ولوالده الشهيد رفيق الحريري.
كل ما قيل حول تلك التجربة محبوس في هذه الحلقة الضيقة، ومحاولات اصطياد ولو حرف واحد من حروف الرواية الكاملة لِما حصل باءت كلّها بالفشل. فلا العائلة في واردِ الكلام عن المحنة التي عاشتها وتُحاول لملمة آثارِها، ولا رئيس الجمهورية طبعاً، وأمّا الرئيس بري، الذي كانت له محطتان لافتتان مع الحريري؛ الاولى في السيارة التي استقلّاها وحيدَين من ساحة احتفال الاستقلال الى القصر الجمهوري، والثانية في اللقاء المسائي بينهما في عين التينة مساء اليوم نفسه، فهو ليس في هذا الوارد على الاطلاق.
ماذا دار بينك وبين الرئيس الحريري في السيارة؟
يتلقّى بري هذا السؤال بابتسامةٍ تُشعر طارحَه بأنّه يتمتّع بقدر كبير من السذاجة وربّما اكثر من ذلك. ومن دون ان ينطقَ رئيس المجلس بكلمة، يقرأ صاحبُ السؤال في صمتِ برّي جواباً رادعا «.. وهل تعتقد أنّني سأقول لك».
ثم يذهب بمن يسأله الى مكان آخر ويقول « شو ممنوع نِطلع بسيارة واحدة، وهل هي المرّة الاولى التي نكون فيها معاً بسيارة واحدة، عندما تشكّلت الحكومة، ألم نكن معاً في سيارة واحدة، فلماذا انتم مستغربون، سألتُه ماذا حصل فأخبرني، ولن تأخذوا منّي كلمة»؟
بهذا الصمت، وبهذا التمويه، قطع بري الطريق على ايّ سؤال حول لقائه بالحريري ليل الاربعاء. علماً انّ من تسنّى لهم الإحاطة ببعض مجرياته يصفونه بلقاء دسِم، جال على كلّ شيء من الرياض الى فرنسا ومصر فبيروت وقبلَها قبرص التي عرّج عليها الحريري في طريق عودته، ربّما لأنّ طائرته الخاصة كانت مركونة هناك.
وأمّا في السياسة فالعنوان الاساس هو «أنّ البلد يجب ان يلتقط انفاسَه، والتريّث في الاستقالة فرصة اكثر من ثمينة ليستفيد ممّا جرى ويكمل طريقه ويستأنفَ حياته الطبيعية تأسيساً على حالِ الوحدة والتضامن التي تجلّت مع قضية الحريري خلال وجوده في السعودية».
حتى إنّ بري، شاءَ خلال هذه الأزمة ان يعمل بصمت، من دون ايّ ضجيج او عرضِ عضلات سياسية أو حضور إعلامي مفتعل على المسرح. ومن واكبَ حركته، رأى كيف انّه كان اوّلَ من بادرَ الى «دبِّ الصوت» بالمعنى الاقليمي العربي حول خطورةِ ما حصل، خصوصاً انّه من اللحظة الاولى التي تلقّى فيها خبرَ استقالة الحريري من الرياض، ادركَ حقيقة الامر بأنّ المسألة ليست مسألة استقالة، بل هي اكبر من ذلك بكثير.
وعلى هذا الاساس أدار بري ماكينة العمل الداخلي التي اطلقها من مصر في اتّجاه المراجع اللبنانية، وكذلك ماكينة العمل الاقليمي وخصوصاً مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. حيث ما زال يقول حتى اليوم « الحمد لله، إنّ الله يُيسّر الامور دائماً، ولو لم أكن في مصر لذهبتُ إليها». مشيراً هنا الى الاهمّية البالغة للّقاء الذي عَقده مع الرئيس المصري وما جرى التأسيس خلاله لمعالجة قضية الحريري.
وبعد الرئيس السيسي، كانت خلوة الاربع ساعات، التي عَقدها بري مع نفسه دون ان يشاركه فيها احد؛ افكار تُزاحم افكاراً حول كيفية تجاوزِ هذا المأزق الذي وضَع مصير البلد على المحك، وهو امتحان صعب له اكلافُه التدميرية فيما لو سقط فيه لبنان.. وعشرات الاتصالات في اكثر من اتّجاه لبناني وإقليمي واوروبي.
لقد كانت عين بري مركّزة على يوم «الأحد الصعب» في 19 تشرين الثاني، اي على اجتماع الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية في القاهرة.
وهدفه الاساس من مجموعة الاتصالات العربية التي اجراها، كان امتصاص حدث الاحد وتفريغ الموقف الذي سيصدر عن الجامعة العربية من محتواه التوتيري والتصعيدي الذي كان معدًّا ضد لبنان وحكومته، وإنزال هذا الموقف الى سقف الحد الادنى، وهذا ما حصل بالفعل.
علماً انّ يوم الاحد كان صعباً، كان اجتماع الوزراء العرب مقرراً في الرابعة بعد الظهر، والمفاجئ انّ بري تلقّى اتصالاً قبل ثلاثة ارباع الساعة من بدء الاجتماع الوزاري العربي، يُسأل عمّا يمكن عمله.
عندها عادت ماكينة بري الى الانطلاق من جديد في اتصالات شَملت وزراء خارجية مصر، العراق، الجزائر، وأمين عام جامعة الدول العربية احمد ابو الغيط. وجاءت نتائجها بالسقف المنخفض للبيان دون ايّ تعرّضٍ للبنان وحكومته. وعلى حدّ تعبير بري كان لمِصر دورٌ رائع حول هذا الموضوع، وممتاز في ما خصّ قضية الحريري.
وعلى خطٍ موازٍ لاجتماع وزراء الجامعة العربية، كان لبري دورٌ اساس في قطعِ الطريق على موقف عربي آخر مرتبط بمستجدّات الأزمة الراهنة، حيث طرِحت قبل ايام قليلة فكرة عقدِ اجتماع طارئ للاتحاد البرلماني العربي تحت عنوان قريب من العنوان الذي اندرَج تحته اجتماع الجامعة العربية.
عُرض الأمر على بري، فذكّر اصحاب فكرة الاجتماع الطارئ بأننا كبرلمانيين يفترض انّنا نمثّل الشعوب ولا نمثّل الحكّام، وإذا كان لا بدّ من عقدِ الاجتماع الطارئ تحت عنوان الجامعة العربية، فنحن لدينا اقتراح بعنوان آخر للمؤتمر الطارئ «الكوليرا في اليمن وعرض حال الشعب اليمني». أخذ هذا الاقتراح للدرس، ولم تمضِ اربع وعشرون ساعة إلّا وجاء الردّ بأنّ الاجتماع الطارئ قد ألغيَ.
كلّ هذه الحركة، لم يُدخلها بري حيّز الإثارة والدعاية الإعلامية «ما قمتُ، وأقوم به، يندرج تحت سقف الحديث القائل و»استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».
همّي الاوّل والأخير هو ان يقوم البلد، ويتجاوز هذه الأزمة الخطيرة، والمهمّ انّ الإدارة السياسية لهذه الأزمة كانت اكثرَ من جيّدة، كان هناك إجماع داخلي حول احتواء الأزمة ومعالجتها، وكذلك إجماع دولي على معالجة هذه القضية ومنعِ تفاعلِها، ووصلنا الى ما وصَلنا اليه من احتواء للأزمة، على طريق تجاوزِها نهائياً إنْ شاء الله، وبالتالي ترسيخ هذه الصورة التي ظهرَت بكلّ تجلّياتها الوطنية والوحدوية. التي لم تحتضن فقط الحريري وعائلتَه وجمهوره، بل احتضنَت البلدَ كلّه».
ماذا بعد؟
ينتظر بري حركة المشاورات التي سيُجريها رئيس الجمهورية، ويفضّل أن يتفاءلَ بأنّ «القصة خالصة إنْ شاء الله، بَس ما حدا يشَوّش». وهو وإنْ كان قد توقّف باهتمام كبير امام تغريدةِ وليد جنبلاط التي تَوجَّه فيها بمضمون «حقّو مصاري» وجريء وصريح إلى وليّ العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، توقّفَ مطوّلاً أمام ما قاله بن سلمان لصحيفة «نيويرك تايمز» الاميركية حول انّ الحريري السنّي لن يواصلَ منح غطاءٍ سياسي لحكومة خاضعة لـ«حزب الله».
كما توقّفَ عند توقيتِ هذا الحديث الذي إنْ كان قيلَ قبل مغادرة الحريري السعودية، فهذا شيء، وإن كان بعد مغادرته فهذا شيء آخر. علماً انّ كاتب المقال في الصحيفة الاميركية الصحافي الاميركي توماس فريدمان، يشير الى انّ الحديث مع ولي العهد السعودي أجريَ بعد مغادرة الحريري السعودية.
وعلى حدّ ما عبّر الصحافي الاميركي حرفياً، فإنّ ابن سلمان «تجنّبَ الخوض في «التحرّكات الغريبة « للحريري الذي بعد عودته الى بيروت عاد عن الاستقالة التي سبق أن أعلنَها من الرياض»
لم يغُص بري عميقاً في هذا الكلام، ففيه ما يَبعث على الخشية من بروز تطوّراتٍ ما جديدة على المسرح الداخلي، أو مِن أن يَستغلّ «أحدٌ ما»، أو «أطراف ما»، هذا الكلام وتدخل على الخط في الداخل، للتشويش على محاولات المعالجات الجارية وتخريبها، وهذا يتطلّب الحذرَ والانتباه. وبالتأكيد أنّ الأيام المقبلة لن تتأخّر في صياغة الجواب!