عندما قال نبيه برّي إنه يملك مفتاح نصاب الجلسة الرئاسية، تجمّع منجِّمو الأرقام والضاربون في رمل الإحصاءات، واتّهموه بأنه يبالغ، وأنه يجافي الواقع ويقرأ في كتاب الأحلام، وقاربوا قوله عن «أنّ النصاب في جيبي»، بشيء من السخرية والاستخفاف. وصار بعضهم يتندّر كيف سيكون موقف برّي عندما تَظهر النتائج التي حدّدوها سلفاً، وتُظهِر أنّ ما قاله مجرّد كلام انفعالي لا واقعي!
بورصة التّنجيم الإحصائي شغالة ليل نهار، وعدادها يسجل رقماً فوق رقم؛ 85، ثمّ 95 ثمّ الى ما فوق المئة، أما برّي، فكاد يقترب من إسداء النصيحة للمنجمين بتناول دواء وأمصال ضدّ عمى الأرقام.
قال إنه يملك المفتاح، فسخروا. فات عن اذهان هؤلاء أنه كان يَعي ما يقوله، وأنه لو شاء الدخول في لعبة النصاب وتطيير الجلسة، لكانت اسهل المعارك بالنسبة إليه، وربحها بلا أيّ عائق، لكنه رفض الدخول في هذه اللعبة بشكل قاطع.
لم يكن هؤلاء المنجِّمون يعلمون أنّ قوى سياسية لها وزنها وحضورها الفاعل عددياً في البرلمان، كانت متحمّسة للدخول الى جانب برّي في لعبة تطيير الجلسة الرئاسية وقد عبّرت عن هذه الحماسة داخل الغرف والمجالس الضيّقة جداً. كان جوابه «لن أدخل في هذه اللعبة، اذهبوا واشتغلوا شغلكم واعملوا مصلحتكم، واتركوني اشتغل شغلي».
وجاءت الجلسة الرئاسية، وصار المنجِّمون يترقبون اللحظة التي سيتعرّض فيها برّي لضربة معنوية وإحراج مربك، لكنها قدّمت بنتائجها السريعة شهادة صريحة وصارخة أقرّ بها خصومه في السياسة قبل حلفائه، بأنّ سحر منجِّمي الإحصاءات انقلب عليهم، وأنّهم كانوا يقرأون في كتاب التمنيات، وبعيدين جداً عن فهم وإدراك الخريطة المجلسية وكلّ الدقائق والتفاصيل المرتبطة بها. أمّا المنجمون فسكتوا ولبسوا قبعة الاخفاء وتواروا خلف الستارة!
وكما في النصاب، كذلك في السياسة، فبشهادة الخصوم قبل الحلفاء أيضاً، استطاع برّي أن يخرج كالشعرة من عجين مَن راهنوا على حشره في زاوية الترشيح الرئاسي.
نزل الى البرلمان ممسكاً بموقفه، وأدار الجلسة الرئاسية بروحية الأمين لهذا الموقف، الحافظ لكرامة المؤسسة التشريعية التي يرأسها، ولكرامة الموقع الدستوري الذي يمثله، وكذلك الخلفية السياسية التي يمثلها. ورسم تحت قبة البرلمان مشهداً توقف عنده الخصوم. انتظروا منه أن يُحاسب أو يُواجه اللحظة الرئاسية الجديدة من موقع الضغينة والكيد، لكنّ هؤلاء اعترفوا:
– بأنه حضر الى الجلسة وقراره أن يرتفع ويترفّع، ومن موقع «رجل الدولة»- كما صرح الخصوم قبل غيرهم- قدّم نموذجاً في الإدارة المجلسية والمقاربة السياسية، وأثار احترام اللبنانيين والعالم لمؤسسة البرلمان التي شكك كثيرون في مصداقيتها وشرعيتها.
– بأنه أدّى أمانته بإيصال الجلسة الرئاسية إجرائياً ودستورياً الى برّ الأمان، والى حيث يجب أن تصل بطيّ صفحة الفراغ الرئاسي.
– بأنه قدّم خطاباً مسؤولاً قصيراً ومكثفاً، وأهمّ ما فيه نظرية اليد الممدودة للتعاون على كلّ ما يمكن أن يُنقذ البلد من أزماته، وفي المقدمة قانون الانتخاب.
– بأنه الكابح لجماح «الولدنة» والممارسات المنفِّرة التي سادت العملية الانتخابية، وعبارة «يا عيب الشوم» التي استخدمها، أظهرت كم كان مستفَزّاً من سعي بعض النواب، لأخذ الجلسة الرئاسية والمجلس معاً من موقع الاحترام والوقار الى موقع المهزلة والتهريج والكاريكاتور وتعزيز وتوسيح مساحة عدم الثقة بالبرلمان وأيضاً بالعملية الانتخابية وخسف مصداقيتها.
– بأنه أثبت بالأصوات الـ83 التي نالها الرئيس ميشال عون، أنّ لعبة النصاب كانت في جيبه فعلاً، ومع ذلك لم يستثمر على ما يخالف قناعاته ورؤيته السياسية والدستور الذي يؤمن به.
– بأنّه أكثر مَن يعرف معنى أن تنتهي مرحلة وتبدأ مرحلة جديدة، ومن هنا جاء بالأداء الذي رأى أنّ عليه أن يؤدّيه، وقدّم موقفه بما يحفظ احترامه لهذا الموقف كما لنفسه وموقعه الدستوري والسياسي. وانتقل الى المرحلة التالية التي لها قواعدها وأسسها ومقارباتها الجديدة.
والأهم في هذا السياق، أنّ خطابه وكذلك خطاب القسم لرئيس الجمهورية، جاءا منسجمين ومتقاطعين، وشكّلا معاً أساساً صالحاً للمشتركات الواردة في الخطابين، التي تمثل نظرياً قاعدة العمل التي يمكن أن يبنى عليها في العلاقة المستقبلية بين الرئاستين الأولى والثانية.
وهناك مَن يقول إنّ هناك فرصة جديدة أُتيحت مع بزوغ العهد الجديد، وصاغتها النوايا الحسنة المتبادلة، ويبدو أنّ الرئاسة الثانية قد حسَمت قرارها بأن تكون رافدة للعهد بكلّ ما يمكن أن يساعد على إطفاء الأزمات وإعادة إطلاق عجلات الدولة كدولة، وفي المقابل يبدو أيضاً امام هذه الفرصة المتاحة أنّ الرئيس عون يرغب أيضاً في الاستثمار على هذه الفرصة بما فيها من مشتركات ونقاط التقاء.
تبعاً لما تقدّم، يحضر السؤال التالي: الى أين من هنا؟
مع الدخول في العهد الرئاسي الجديد، تنطلق عملياً عملية رسم اللوحة السياسية الجديدة، وبالتالي كلّ الأنظار شاخصة الآن نحو المرحلة الثانية، التي هي مرحلة تكليف شخصية سنّية لتأليف أولى حكومات العهد. والمحسوم تبعاً للخريطة النيابية أنّ أكثرية الأصوات ذاهبة الى تسمية سعد الحريري رئيساً مكلفاً تشكيل الحكومة. وهناك أسئلة كثيرة تحيط بهذا التكليف: هل سيدخل الحريري قوياً الى جنّة الحكومة؟ هل سيدخل ضعيفاً؟
كم سينال من الأصوات قياساً مع الأصوات التي نالها عون، وماذا لو كانت النسبة أقلّ بكثير ممّا نالها عون؟ وهل سيؤثر ما قيل عن تشتّت أصوات كتلة «المستقبل» على عملية التكليف والتأليف؟ وماذا لو لم يُسمِّ الثنائي الشيعي الحريري في استشارات التكليف، وهل سيشكل عدم التسمية عائقاً ميثاقياً امام الحريري؟
«حزب الله قراره محسوم بعدم تسمية الحريري، أما برّي فهو نائم على قراره، يوقظه في اللحظة المناسبة، لكنّه سبق وقال إنه قد يذهب الى المعارضة، وقال أيضاً أنا انتظر ما لديهم، إن اعجبتني الحكومة أشارك فيها، وهذا القول يستبطن أيضاً أنه إن لم تُعجبه الحكومة لا يشارك مبقياً الكرة في ملعب الحريري.
من هنا، لن يكون مفاجئاً أبداً الانسجام التام بين برّي و«حزب الله»، في مرحلة التكليف والتأليف.
ولن يكون مفاجئاً إن قرّر برّي و«حزب الله» أن يشاركا في الحكومة الجديدة، ولن يكون مفاجئاً إن قرّرا معاً عدم المشاركة. ورفعا شعاراً مشتركاً معاً في الحكومة ومعاً خارجها.
ولن يكون مفاجئاً إن وقف برّي و«حزب الله» معاً في خندق رفض القبول بأيّ اتفاقات أو تفاهمات مسبَقة نسجت على خط الترشيح الرئاسي بين قوى سياسية معيّنة. فهذه الاتفاقات والتفاهمات إن كانت تلزم أطرافها، فهي لا تلزم برّي والحزب.
ولن يكون مفاجئاً لو استنسخ الطرفان أداءهما الذي اعتمداه في حرب تموز 2006، يومها كانا متكاملين، فـ«حزب الله» تولّى الميدان العسكري، أما برّي فتولّى الميدان السياسي والديبلوماسي. واليوم في مرحلة التأليف، فـ«حزب الله» تولّى الشق الرئاسي وحقّق بوصول عون الى الرئاسة ما يعتبره إنجازاً استراتيجياً، أما برّي فيتولّى الشق السياسي، والتفاوض، ومن حقه هنا محاولة زيادة الرأسمال السياسي الى أقصى الحدود وبما تقتضيه المصلحة والدور والموقع والشراكة الكاملة والفاعلة.
ولن يكون مفاجِئاً، لو اعتمد برّي سياسة «التكتيك» والمناورة، وأخذ الوقت الذي يريده وسلك المنحى الذي يريده وبالطريقة التي يشاؤها، ولن يكون مفاجئاً إن كان «حزب الله» الى جانبه هنا.
ولن يكون مفاجِئاً لو قرّر برّي اعتماد سياسة تحسين الشروط وذهب فيها الى المدى الأبعد، ولن يكون مفاجِئاً إن كان «حزب الله» الى جانبه أيضاً.
ولن يكون مفاجِئاً، لو قرّر الضغط بأيّ طريقة لعدم التمديد لمجلس النواب، وكذلك الضغط على الحريري لإنجاز قانون انتخابي جديد في وقت قريب جداً، ولن يكون مفاجِئاً إن كان «حزب الله» الى جانبه أيضاً.
يبقى أنّ عون يريد انطلاقة قوية لعهده، ومن هنا، لا يستطيع أن يجاري الحريري – حتى ولو كانت هناك اتفاقات أو تفاهمات مسبَقة بينهما – سواء بالتمديد لمجلس النواب، أو بإجراء الانتخابات النيابية على أساس قانون الستين، ذلك أنّ كلا الخيارين يشكلان كسرة للعهد ويصدمان صورته الإصلاحية التي رسمها لنفسه، فضلاً عن أنّ عون قد قطع الطريق على «الستين» أو التمديد عندما وعَد في خطاب القسم بالعمل على إنجاز قانون انتخابي قبل نهاية ولاية المجلس الحالي، علماً أنّ طريق المجلس مقطوعة نهائياً أمام أيّ محاولة أو ضغوطات من أيّ نوع لفرض التمديد، فمفتاح المجلس مع برّي، ولن يفتحه أبداً امام التمديد.
تبعاً لما تقدّم، لا تبدو مهمة الحريري سهلة بعد التكليف، بل إنّ مشوار التأليف يبدو طويلاً… وربما طويلاً جداً. إلّا إذا قرّر الحريري اعتماد سياسة التنازلات.. فهذا يرسم حتماً مشهداً آخر.