ماذا لو أصاب نبيه بري، كما يفعل غالباً، في مقولته المعلنة منذ فترة: إلى الانتخابات النيابية در؟ منذ أقرت حكومة تمام سلام مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، وبالتالي إجراء الانتخابات النيابية، في جلسة مجلس الوزراء في 19 آب الماضي، ساد انطباع بأن لعبة عض اصابع تدور بين الحكومة ومحركها فؤاد السنيورة، وبين «معارضتها الداخلية» ومحركها نبيه بري. وقيل وكتب الكثير عن تفاصيل تلك اللعبة المزعومة وخلفياتها المتصورة.
قيل بداية إن «حكومة السنيورة» تريد غسل يديها من معصية التمديد النيابي. وهي بالتالي تعلن سلفاً أنها لن تقدم على مشروع مرسوم بإلغاء الانتخابات. وأنها ترمي كيس فحمها في ساحة النجمة. وقيل في المقابل أن نبيه بري رد الطابة قبل رميها إليه. فهو يريد موقفاً حريرياً معلناً ومؤكداً ومكرراً، بأنهم هم من يريدون التمديد. مع ضمانة لاحقة لا سابقة وحسب. وذلك بعدما لدغ من جحر تمديد العام 2013. يومها جاءه السنيورة إلى اجتماع ثنائي بنصاب كامل. اتفقوا على ضرورة التمديد. لكن بعد حصوله تنصل السنيورة من توقيعه، وراح يضغط عبر المجلس الدستوري من أجل قبول طعن ميشال عون. تكوّن انطباع لدى بري بأن بطل العجز والدين العام أخذ التمديد في السر، ويحاول لعب دور البطولة الشعبوية في العلن. لعبة لن يسقط بري في فخها مرة ثانية في خلال عام ونيف. بادر السنيورة إلى مماشاة بري في مناورة مقابلة. أعلن نهاد المشنوق من موقعه كوزير للداخلية أن إجراء الانتخابات دونه صعوبات واقعية. ثم كرر السنيورة الأمر نفسه. حتى أكد «تيار المستقبل» سيره بالتمديد، ولو من زاوية قانونية دستورية. على قاعدة أن لا انتخابات نيابية في ظل شغور رئاسي. ومع ذلك ظل بري على موقفه. قدم ترشيحه، وبدأ يستعد لمعركة الزهراني!
بعدها قيل إن المسألة تتخطى حدود من يتحمل مسؤولية التمديد علناً، وكيفية ضمانة عدم الانقلاب شعبوياً على السير فيه. فقيل لاحقاً إن السنيورة يريد صفقة – رزمة تمنحه براءة ذمة مالية عن كل مراحل حكوماته ووزاراته وحقائبه. وقيل في المقابل إن بري يريد اتفاقاً يعيد فتح أبواب المجلس النيابي أمام عمله الطبيعي، من تشريع ومراقبة. حصل رئيس المجلس على شيء من ذلك. لكن المفاجأة أن موقفه استمر في إعلان اقتناعه بأن الانتخابات حاصلة. أمس، رد بري، من باب التأكيد لا الانتقاد، على كلام ميشال عون بأن صفقة التمديد قد حصلت، جازماً مرة جديدة بأن لا تمديد ولا مناورة ولا صفقة ولا حافة هاوية ولا من يهوون أو يتهاون أو يتهاوون … إلى الانتخابات در!
كأن رئيس المجلس قد اجتاز نقطة اللاعودة في هذه المسألة. مع أن نقطة كهذه لا وجود لها في السياسة اللبنانية. لكن مجرد الذهاب إلى هذا الحد بدأ يطرح التساؤلات: هل تكون الانتخابات فعلاً؟ وهل تكون المدخل الوحيد المتاح لولوج الحل؟ على المستويات الأخرى المتصلة ثمة أكثر من مؤشر قد يزكي هذا الانطباع. واشنطن مثلاً وضعت لنفسها أولوية عنوانها الحرب على «داعش». وهو عنوان رسمت له مدى زمنياً مقدراً بالأعوام. وفي هذه الأثناء لا وجود للبنان على شاشات راداراتها. البطريرك الماروني في واشنطن تسلم ورقة مجهولة المصدر، كما كل رؤساء الكنائس الذين رافقوه، مفادها أن لا جدوى من الحديث عن الملف اللبناني في العاصمة الميركية الآن. أنتم هنا لإثارة قضية «داعش» في العراق وسوريا لا غير. وهو ما تأكد أكثر في لقاء الآباء مع باراك أوباما. كلموه عن الأزمة اللبنانية، فردّ بعبارة وحيدة، ربما كتبت له هو أيضاً في ورقة توجيهاته المقابلة: ندعم الجيش اللبناني وسنستمر في تسليحه! بيروت بملفاتها واستحقاقاتها الخاصة منسية إذن بالكامل في واشنطن.
أما على المستوى الإقليمي فما حاول البعض نسجه، بعد زيارة عبد اللهيان إلى الرياض، من بداية تقاطع إيراني ـــ سعودي، بدأ في بغداد بتشكيل حكومة، وسيتمدد إلى دمشق وبيروت، يبدو أنه تراجع مع انطلاق الحملة الأميركية على «الدولة الإسلامية». عادت كل من طهران والرياض إلى محورين مختلفين خصوصاً بعد مؤتمري جدة وباريس. كل شيء تأجل أو حتى تجمد، في انتظار جلاء غبار معركة «داعش» والكاوبوي. معركة أعلن الأخير مسبقاً أنها مسألة سنوات. فماذا يفعل اللبنانيون في هذا الوقت، وفي أزماتهم واستحقاقاتهم؟!
قد تكون الانتخابات النيابية هي المدخل الفعلي الوحيد للخروج من المأزق. وقد تكون لهذا السبب بالذات مرفوضة من البعض. يقال في «السوق الانتخابية»، إن المال الانتخابي شحيح لدى أهله. ويقال إن الوقت القصير يحول دون تفعيله واستثمار نتائجه السحرية، في حال توافره سريعاً أو غب الطلب. ويقولون إن المزاج الشعبي المسيحي متأثر بشبح «داعش». وإن سحر البعض قد انقلب عليه في هذه البيئة بالذات. فمن أراد لدواعش عرسال أن يفرضوا مجيء رئيس للجمهورية لصالحه، على طريقة نهر البارد، خسر المعركة هناك. وهو الآن أمام معركة معاكسة، عنوانها أن دواعش عرسال سيدفعون المسيحيين لاختيار نوابهم لغير صالحه. ويقولون، أيضاً، إن البطريرك الماروني تعهد علناً، أنه إذا أجريت الانتخابات وانتهت بإعلان زعيم أكثرية مسيحية واضحة، فهو يلتزم حينها خوض معركته الرئاسية جهراً، ورفع الصوت أمام كل اللبنانيين: هذا هو الرئيس الميثاقي، فتفضلوا وأعلنوه مستحقاً!
قد يصيب نبيه بري مرة أخرى. وقد تكون انتخاباته مدخلاً لكل الانتخابات ولكل الحلول… إلا إذا عادت الصفقة، أو إذا لجأت «داعش» إلى تفجير كبير… لمصلحة من؟!