لأي غاية سينفّذ الإضراب اليوم؟ هذا السؤال ليس مرتبطاً بالكلام المكرّر والساذج بأهدافه، عن هوايات قيادة الاتحاد في الاستزلام السياسي لجهة في مواجهة أخرى، ولا عن جهل قيادته بأهمية توقيت ومضمون التحرّكات المطلبية التي فاتها سنة ونصف سنة من الانهيار الذي تلاه «السقوط الحرّ» في قيمة العملة وتآكل الرواتب والأجور والمدّخرات والأصول، وإنما الأمر يتعلق بتلك الغاية المرسومة للإضراب. فهو سيكون مجرّد «بروفة» عن الفوضى الممكن القيام بها التي تستكمل التفكّك الاجتماعي والاقتصادي، بالسياسي ثم الأمني، أو هو مجرّد تعبير عن عجز يكاد يصبح مزمناً لدى قوى السلطة المتناحرة. عجز عن فعل أي شيء. وبالتالي كيف يمكن ترجمة رمزية تحرّك اتحاد العمالة العام، كما يسميه شربل نحاس. فهذا الاتحاد كما هو معلوم، مملوك من قوى السلطة بزعامة «عين التينة» التي تضغط اليوم على «القصر الجمهوري» تحت عنوان الدعوة إلى تأليف «حكومة إنقاذ وطني»، وهو عنوان تحرّك الاتحاد.
إجرائياً، تفسير غايات التحرّك بخلفية سياسية أمر مستغرب، إذ لا آلية واضحة لتحصيل نتائج الإضراب في تأليف الحكومة. ولا الأطراف المعنية، سواء طرفي النزاع المُعْلَنين أو الأطراف الأخرى المكتومة، لديها أي فكرة عن جدول أعمال حكومة الإنقاذ ولا عن مشروعها الإنقاذي، حتى لو تمكن القصران من تأليف الحكومة عشية التحرّك في الشارع. بما يصبح للأمر غاية واضحة في إطار أبعد وأكثر عمقاً: الفوضى. نوعية التحرّكات اليوم، ستحدّد الأهداف الكامنة من وراء معركة «القصرين». الحجم العددي، الاتساع الجغرافي، التنوّع المذهبي والحزبي، الأدوات، الوتيرة… كلّها عوامل تحدّد أي نوع من المعارك بين القصرين. هل هي معركة عبثية؟ أم أنها معركة التلويح بالفوضى؟
بحسب المعلومات، كان يفترض أن تدور رحى هذه المعركة يوم الثلاثاء الماضي، لكن مبادرة «عين التينة» لم تكن قد سقطت بعد، لذا قرّر رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر تأجيل الإضراب ليوم الخميس. حصل أكثر من ذلك في المجلس التنفيذي للاتحاد الأسبوع الماضي. فقد كان لافتاً حضور التيار الوطني الحرّ في الجلسات، وتأييده الإضراب، حتى ممثلو القوات اللبنانية كانوا حاضرين أيضاً، إلى جانب القيادات التقليدية من ممثلي حركة أمل أصحاب الكتلة الأكبر في المجلس، إلى حزب الله، وتيار المستقبل، والحزب الاشتراكي، والمردة… كلّهم كانوا هناك. استدعوا هيئة التنسيق النقابية باعتبارها تمثّل الملكية السياسية نفسها. «كان الهدف تجميع القوى حتى يكون هناك عدد أكبر من التحرّكات السابقة التي لم يحضرها ما يزيد على 250 شخصاً» يقول أحد النقابيين. لكن هيئة التنسيق اعتذرت لأنها أمام استحقاق «الامتحانات» رغم تأكيد رئيس الهيئة نزيه الجباوي أن قلبه سيكون مع الاتحاد.
هيئات أصحاب العمل، الرأسماليين الجشعين الذين ساهموا في ابتلاع ثروات لبنان وكانوا عاملاً من عوامل انهياره، سيشاركون في الإضراب! تتقدمهم جمعية المصارف، ونقابات موظفي المصارف. الاثنان يفترض أنهما مختلفان على قضية طرد عشرات الموظفين بشكل عشوائي من دون أي اتفاق على بروتوكول تعويضات صرف موحّد لهذه المرحلة. الاثنان يعلمان أن نحو 6 آلاف موظف سيطردون من المصارف، لكن ها هم يقفون جنباً إلى جنب في معركة «القصرين». التناقضات، تصل إلى حدود شعار التحرّك: «حكومة إنقاذ». في الشكل، يبدو أن الاتحاد العمالي العام ترك كل الانهيار الاقتصادي بما فيه صرف مئات العمال تعسّفاً ليتفرّغ لتأليف الحكومة وتحديد عناوينها.
هل هناك ما تبقى لإنقاذه بعد هيركات سوقي وصل إلى 80% على المدّخرات؟
ربما يتساءل الأسمر لماذا بإمكانه قيادة الاتحاد بكل تمثيله السياسي ومهماته المحصورة بتلقي «التعليمة»، بينما لا يمكن هذه الأطياف السياسية الاتفاق على تشكيل حكومة تتمثّل فيها (!) والأهم لماذا لا يتفقون على حكومة إنقاذ. لعلّ الأسمر لم يتبحّر في كلمة «إنقاذ»: إنقاذ من؟ وماذا؟ هل يجب إنقاذ الناس من تضخّم الأسعار وتدنّي قيمة العملة، أم يجب إنقاذ النموذج الذي أوصلهم إلى هذه الحالة لو بلغ بهم الأمر الجوع والفقر والهجرة كما يحصل اليوم؟ هل هناك ما تبقى لإنقاذه بعد هيركات سوقي وصل إلى 80% على المدّخرات، وتدنّي بنسبة 85% من قيمة العملة، وانهيار في المؤسسات الخاصة والعامة؟ إنقاذ الناس من السلطة مثلاً أم من العنف الذي قد تمارسه؟ هل هذا التحرّك يهدف إلى إنقاذ الناس من براثن القصر الجمهوري أم من براثن عين التينة؟ إنقاذ الناس من الأمر الواقع، أم فرضه عليهم؟ إنقاذ الناس من الهجرة وتركهم يلوذون بالفقر؟ إنقاذ الناس من تسوّل الرعاية الصحية، أم تركهم يعانقون الموت؟
الأحزاب السياسية، وعلى رأسها تيار المستقبل ستتزعم تحرّك الاتحاد أيضاً. نقابات السائقين في الشمال تختصر المعركة بإغلاق جسر البالما، لكن من «يقطفها»: المحسوبون على ميقاتي أم المحسوبون على كرامي؟ الاشتراكي ينوي القيام بتجمّع في بعقلين، حيث سيلقي أسامة الزهيري خطاباً في مبادئ الاستزلام، ومن المقرر أيضاً أن يلقي الأسمر خطاباً مماثلاً تطغى عليه صبغة «مسيحيي أمل»، أو ما يُسمى بـ«العيش المشترك».
ثمة الكثير مما يقال عن هذا التحرّك الذي لا وصف ينطبق عليه سياسياً أو مطلبياً. هو صراع عبثي بين القصرين وعلى شاكلة حكومة الإنقاذ المطالب بتأليفها: بلا أي مشروع. فالمشروع الوحيد الذي كان متاحاً، وعلى هزالته، هو مشروع حكومة حسان دياب: الإقرار بالخسائر، إحصاء ما لدينا في مصرف لبنان من عملات أجنبية، إعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي… هذه كانت بداية وئدت في مهدها لمصلحة مسار توزيع الخسائر الحالي: تحويل الخسائر بالدولار إلى نقود بالليرة. هذا ما يسبب تضخّم الأسعار ويغذّي تدنّي قيمة الليرة، ويدفع الجميع نحو البحث عن الدولارات «الفريش» للاستفادة من فروقات أسعار الصرف المتعددة. هو المسار الذي رسمه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة باسم قوى السلطة ونيابة عنها لتوزيع الخسائر. أغدق علينا بالأذيّة إلى درجة أننا بتنا نتمنى العودة إلى السابق مقارنة مع الوضع الحالي… لو كان هناك اتحاد عمالي عام، غير ذلك المتهم بالعمالة العامة، لكان أطلق نفير الشارع يوم قال صندوق النقد الدولي لسلامة: أنت تشعل سعر الصرف. يومها كان وزير المال المحسوب على عين التينة، غازي وزني، حامل الحصّة الشيعية في بنية النظام ــــ التوقيع الثالث ــــ حاضراً في تلك الجلسة. لو كان هناك اتحاد عمالي عام، لكنا نسأل اليوم عن مكافحة التفكك الاجتماعي الذي يصيبنا؟ وعن التفكك المؤسساتي؟ وعن توزيع الخسائر؟ وعن التعامل مع صندوق النقد الدولي؟ لو كان لدينا اتحاد عمالي عام لكنّا نفكّر بالنهوض: بإنشاء نقل عام مشترك، وبخدمات أساسية أخرى مثل التغطية الصحية الشاملة، الكهرباء، المياه… كنّا، عندها سنعلم كيف سننفق الدولارات التي يحملها مصرف لبنان لنوقف نزف الهجرة ونعيد البناء، ولما كنّا بحاجة إلى تأكيد المؤكد في هوية الأسمر ورفاقه وهواياتهم في الاستزلام السياسي. الأسمر واحد من «ثوار السلطة». هدفهم اليوم واحد: تأكيد الفقر والتحريض على الهجرة.