يحتاج مسار الحوار الأوّلي بين الرئيس نبيه بري والنائب جبران باسيل، في ظل النيات الإيجابية من الطرفين، إلى جهد شخصيّ مباشر، مكرّر ومعجّل، من رئيس المجلس لحمايته ممن يتصرفون على أساس أنهم متضررون منه. أما حزب الله، الذي عبّر مراراً عن تطلّعه إلى ترتيب العلاقة بين الطرفين بعدما أسهم توترها في تخريب علاقته بالتيار الوطني الحر، فمطالَب، من جهته، ببذل جهد جدي لتحصين الخطوات الأولية الحالية وحمايتها من دسائس الخبثاء وكمائنهم. إذ إن التفاهم الأولي بين الحركة والتيار، أو تنظيم خلافاتهما، يطيح بمبرر وجود عدد لا يستهان به من السياسيين.منذ نحو عام، انصبّت ضغوط خارجية وداخلية (بكركي) على بري، بعد نجاحها في «تحييد» باسيل، وبلغت في حدّتها درجات خيالية. مع ذلك، حافظ رئيس المجلس على ثباته، قبل أن تتراجع الضغوط بعد حرب غزة وتتحوّل من محاولات ترهيب إلى محاولات ترغيب. المؤكد أن الرجلين يريدان من حوارهما الوصول إلى هدف واحد، فيما المتدخلون السلبيون، هنا وهناك، يحذّرون من أن كلاً منهما يريد من الحوار أن يوصله إلى هدفه، لا إلى الهدف المشترك. وبحسب المعلومات، هناك ارتباط وثيق بين التحول الحالي في المسار القطري وتطرية الأجواء بين التيار والحركة، عبر «حوار على الحوار»، قبل تلبية دعوة بري إلى الحوار الموسع الذي يُرجّح، مبدئياً، أن يكون تحت المظلة القطرية. ولقطر، هنا، «آثار» في كل الاتجاهات. فسفيرة لبنان في الدوحة، فرح نبيه بري، حافظت دائماً على خط اتصال مفتوح وثابت مع باسيل، والمساعي القطرية الجديدة انطلقت من وجوب تأمين مساحة حدّ أدنى مشتركة بين بري وباسيل أولاً.
وفيما قد يكون هناك لاعبون ثانويون (في التيار والحركة) لا يريدون لهذا التقارب نجاحاً، فالمؤكد أن أفرقاء إقليميين ودوليين – تتقدمهم الإمارات وفرنسا – لا يريدون لقطر أن تنجح أيضاً، ولدى هؤلاء أدوات سياسية وإعلامية نافذة جداً. إذ تلمس فرنسا، ضمن ما يعرف بـ«الخماسية»، تهديداً مباشراً لطموحاتها، وتشعر بنقمة وغضب ورغبة في الانتقام، بعدما راكمت مبادراتها ومساعيها المتواصلة منذ سنوات فشلاً فوق فشل: يتدخل الأميركيّون مباشرة لإفشالها كما حصل في المؤتمر الخاص بدعم الجيش اللبناني الذي كانت تنوي عقده نهاية هذا الشهر. تؤكد وزيرة خارجيتها (السابقة) تأخير البحث في تفاصيل الاتفاقات المزعومة إلى ما بعد حرب غزة، فيبدأ المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين حركة مكوكية لتطريز ما يمكن من حلول في انتظار إعلانها بعد وقف الحرب، ليخرج الفرنسيّ من هذا المولد أيضاً بلا حمص. وتلمس باريس أن مبدأ التسوية التشاركية مع حزب الله كان مرفوضاً، أميركياً وسعودياً، حين كان طرحاً فرنسياً وأصبح مقبولاً عندما بات الطرح قطريّاً. ورغم تفاهم الحد الأدنى السعوديّ – الفرنسيّ، يلاحظ الفرنسيون طبعاً كيف تعامل حلفاء السعودية مع تسويتهم في لبنان، وكيف يتعامل هؤلاء اليوم، سواء بودّ أو بلامبالاة، مع المقترحات القطرية. فرنسا هذه – الغاضبة والناقمة – لديها الكثير من الوسائل التي لم تمكّنها من إنجاز شيء إيجابي، لكنها قادرة على التخريب أو محاولة التخريب.
فرنسا غاضبة بعدما راكمت مبادراتها ومساعيها المتواصلة منذ سنوات فشلاً فوق فشل
وهنا، تلفت مصادر ديبلوماسية فرنسية إلى معلومة خطيرة تستوجب التدقيق: في لقائه الأخير مع المسؤولين القطريين، طلب الرئيس نجيب ميقاتي من الدوحة إرجاء مساعيها أو مبادراتها في لبنان حتى إشعار آخر أو تغيير الفريق المكلّف بهذه المساعي. يحاول الفرنسيون، عبر هذه «المعلومة»، الإيحاء بأن لبنان الرسمي ممثلاً بالحكومة لا يريد لقطر أن تؤدي دوراً إيجابياً، ويسوّقون أن وعود القطريين باستثمارات وخطط ومشاريع في لبنان، كلام قديم ثبت منذ عام 2008 أنه حبر على ورق. ويشير تقرير ديبلوماسي موثوق، هنا، إلى أن الأجندتَين الفرنسية والسعودية يمكن أن تتقاطعا، لكن لا يمكن أن تكونا أجندة واحدة. إذ يريد الفرنسيون أشخاصاً معينين وضمان مصالح وأموراً أخرى، فيما يبدو واضحاً أن السعودية تنتظر مآل المشهد اللبناني العام لتقرر العودة إلى البلد أو عدمها، من دون أن تربط ذلك بأشخاص أو مواقع أو مصالح اقتصادية. وخلافاً لما يشاع، يقدر التقرير الديبلوماسيّ بأن الثنائي الشيعي هو الأكثر استعداداً بين الأفرقاء اللبنانيين لملاقاة ما تريده المملكة في منتصف الطريق، علماً أن ما تريده السعودية معروف (جوّ لبناني عام غير معادٍ، لا طائفة مؤيدة لها أو حصة حكومية وازنة)، وكذلك ما تريده فرنسا (مصالح اقتصادية) وقطر والولايات المتحدة. لكن لا أحد يملك تصوّراً واضحاً عما يريده الثنائي فعلاً.
وبالعودة إلى السعودية، يلفت التقرير الديبلوماسي إلى أن تصوير رئيس الحكومة السابق سعد الحريري نفسه حاجة لبنانية أو إقليمية باعتباره منبع «الاعتدال» ومصبّه، هو وهم يستفزّ المملكة التي جعلت من الاعتدال عنواناً لسياستها الخارجية، وتعتبر، في ظل ما تشهده من تحوّلات سياسية واجتماعية، أنها هي من باتت تعطي صكوك الاعتدال وتجعل ممّن تدعمه، أياً يكن، رمزاً لهذا الاعتدال. وبالمثل، لا يمكن القول للمملكة إن ميقاتي (أو غيره) يمثل حصتها في لبنان. ويسجل هنا تقاطع سعودي – قطري في النفور ممن يتشدّقون بفسادهم ولا يشبعون من توسل الاموال، والإصرار على تجاوز مبدأ الصفقة (الشكل) لمصلحة المشروع (المضمون)، في تقاطع لغوي شكليّ حتى الآن مع باسيل، ما يستوجب في النتيجة بحثاً في وظيفة البلد ودوره مع حزب الله. فلا يكفي السعودية إيهامها بوجود رئيس حكومة مقرب منها في لبنان، بل تريد أن تعرف دور هذه الحكومة ووظيفتها. ولا شك في أن ما كان صعباً في الأيام والأسابيع الأولى من عمر التفاهم الإيراني – السعوديّ يصبح أسهل يوماً بعد يوم، وخصوصاً في ظل رفض لأن تكون جزءاً من أي تحالف أو مشروع لمواجهة إيران وحلفائها في المنطقة. والمؤكد أن ظهور الولايات المتحدة بمظهر العاجز عن حماية إسرائيل أو إنقاذها من نفسها يشجع دولاً كثيرة، تتقدمها السعودية، على عدم الرهان مستقبلاً على واشنطن. فإذا كانت إسرائيل، بكل ترسانتها العسكرية والتكنولوجية والأمنية وفي ظل جسر جوي عسكري مع الولايات المتحدة، عاجزة عن القضاء على تنظيم محاصر بالكامل منذ سنوات طويلة، فكيف الحال مع حزب الله أو الحوثيين أو إيران نفسها، وهو ما أفهمته المملكة كما يبدو لأتباعها الذين كابروا قليلاً بعد التفاهم الإيراني – السعودي، لكنهم عادوا والتزموا بمقتضياته حين تيقّنوا من أن قرار التفاهم نهائيّ وطويل الأمد، لا مجرد تكتيك مرحليّ. وهو ما يدفع إلى القول إن ما تريده السعودية، بشخص وليّ العهد، يمكن أن يمثل زخماً للمسعى القطري الذي يفترض أن يزداد الأسبوع المقبل أو الأسبوع الذي يليه، مستفيداً من رغبة أميركية بالوصول إلى حلول موسّعة فور التوصل إلى اتفاق في غزة، ومن المرونة المستجدة التي يظهرها الأفرقاء الأساسيون في لبنان والمنطقة، باستثناء الإمارات.