بكامل حيويّته، عاد الرئيس نبيه برّي من عطلته الخاصة. تسعة أيام قرّر أن يغيب فيها عن السمع السياسي، أقفل هاتفَه، طلّق الصحف والمجلات ونشرات الأخبار، غادر الجوَّ السياسيّ تماماً، وصمَّ أذنيه عن إرباكاته و«منغصاته»، و«نرفزاته»، ناهيك عن مزايداته. ارتاح من كلّ القيل والقال، ومن بهلوانيات السياسة و«شقلباتها»، وممَّن يقول الشيء ثمّ يفعل نقيضَه، وممَّن يبدّلون مواقفهم كمَن يُبدّلون ثيابهم فيقول الشيء في النهار، ثمّ يعود و«يلحسه» في الليل. تسعة أيام قضاها «من الفندق الى البحر… ومن البحر الى الفندق». ولو قيّض له لما تأخّر لحظة عن تمديد عطلته، إذ ليس من السهل عليه أن يسرق لحظة خروج الى الشمس، لا بل الى الحياة الطبيعية كأيّ مواطن عادي.
عاد برّي، فوجَد من جهة، اشتباكاً إعلامياً بين محطتي الـ«أن. بي. أن» و«الجديد»: «هناك مَن أشعله، ونحن ندرك أنّ هناك لعبة مكشوفة، مع ذلك قلنا هدِّئوا الأمور. وقلنا أيضاً ليعلموا أنني لا ولم ولن أخضع للابتزاز».
ومن جهة ثانية، وجد مناخاً غريباً؛ رئاسة الجمهورية قاب قوسين أو أدنى من إنتخابِ رئيسٍ جديد، بالحدّ الأدنى هو أحد أبرز اللاعبين على المسرح الرئاسي، ومع ذلك ضرب الاخماس السياسية بأسداسها، حاول أن يبحث عن السرّ، فلم يجده، حاول أن يتفاءل في إمكان حصول هذا الأمر، فلم يجد مبرّراً.
عاد برّي، فوجَد أجندة مواعيده قد امتلأت بطالبي المواعيد، وعلى ما يبدو كان أكثرها إلحاحاً الموعد مع النائب سليمان فرنجية. وفي الجلسة المطوَّلة بينهما، كان فرنجية مستفسراً عن تطوّرات الأيام الماضية، وماذا في الأجواء، وماذا استجدَّ رئاسياً، وما سرّ التفاؤل في بعض المواقع: هل هو جدّي، مفتعَل، أم ماذا، مَن أمرَ به. كان فرنجية مستاءً من «الغرفة السوداء»، التي روّجت لانسحابه من المعركة الرئاسية، أو أنه في صدد الانسحاب.
بدا واضحاً أنّ فرنجية ردّ على شائعات تلك الغرفة برسائل مباشرة أو غير مباشرة وجّهها الى مَن يهمّه الأمر بأنه ماضٍ في الترشيح، حتى ولو بقيَ نائب واحد يؤيّده. وأحبّ أن يُعلن ذلك من على منبر عين التينة لما له من رمزية سياسية، خصوصاً أنّ لصدى الإعلان من هذا المكان مغزاه الذي يصل الى حيث يجب أن يصل.
برّي استفسر فرنجية عمّا يجري، فردّ رئيس «المردة» بما مفاده: «قالوا إنني انسحبت أو سأنسحب. فليقولوا ما يشاؤون، أنا لن أنسحب أبداً، إلّا إذا حصل إجماع على مرشّح غيري، أنا مستمرّ ولو بقي نائب واحد يؤيّدني».
خرج فرنجية من اللقاء مرتاحاً، وتعمّد أن يقول ما قاله بنبرة حازمة، ومؤكداً في الوقت نفسه أنّ الرأي كان متطابقاً مع رئيس المجلس النيابي. الواضح هنا أنّ رئيس «المردة» قطع الطريق على مَن يُريد إزاحته من المعركة، أو يزرع الشك ما بين بنشعي وبيت الوسط، وهو أمر تمّ تطويقه رغم مناخات التفاؤل المفتعل، والدليل على ذلك ما يتردّد عن اتصالٍ هاتفي جرى قبل أيام بين فرنجية والرئيس سعد الحريري، أعيد خلاله وضع النقاط على حروف المبادرة الحريرية وتأكيد التمسّك بمضمونها جملة وتفصيلاً.
محادثو برّي سألوه عن سرّ التفاؤل الرئاسي، فيبتسم، ثمّ ترتسم على وجهه علامات استهجان، سرعان ما يقرنها بقوله: «والله جِيت، ولقيت كلّ قصة الرئاسة منتهية، والانتخاب حاصل بغيابنا.. فقلت إجت الرزقة وكلّ الأمور خلصت والحمدلله ارتحنا وما عاد في عنا شي».
ولكن هل ثمّة جديّة في ما يقال عن إمكان إجراء انتخابات رئاسة الجمهورية قبل نهاية السنة. هنا لا يؤكد برّي أو ينفي، لكنه يقول: «في رأيي هناك معطى لا يجب أن نتجاوزه أو نتجاهله، بل يجب أن نتوقف عنده ونقرأه ونتمعّن فيه جيداً.
فلنوجّه أعيننا نحو حلب، فإذا ما استمرّت مساعي الحسم على الوتيرة ذاتها، توازياً مع التطوّرات التي شهدتها تركيا في الآونة الاخيرة، فأنا على يقينٍ من أنّ النتائج ستنعكس حتماً على كلّ المنطقة من لبنان الى اليمن.
والأهمّ في هذا الأمر أنها قد تُشجّع انطلاق الحوار السعودي – الإيراني، وهذا ما قد يسرّع إجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان، بمعزل عن الأسماء. وبالتالي موضوع الرئيس التوافقي لا بدّ منه، وليس التوافق على رئيس فقط بل التوافق على كلّ شيء».
وطريق التوافق على كلّ شيء، ينبغي أن يمرّ عبر الجلسات الحوارية، التي ستنطلق غداً. هنا لا بدّ من الواقعية يقول برّي، فهي توجب لفت انتباه الفرقاء جميعاً الى أنّ الجلسات الحوارية ليست هي آخر الآمال، بل هي آخر الفرص المهمة جداً جداً لبلوغ حلول. هناك مَن يقول إنّ الأجواء فاشلة سلفاً وإنني سأبادر الى اختصار الجلسات. أبداً هذا الكلام غير صحيح، أنا لن اختصر الجلسات، بل العكس، فأنا مستعدّ لأن أطيلها أكثر ما يمكن».
لكن لا أستطيع ان أقول إنني متفائل او غير ذلك، فذلك مرهون بالنتائج التي لن استبقها. المهم، على الجيمع أن يعلموا أنّ ملعب كرة القدم له حدود معيّنة، ولا يستطيع أحد أن يُسدّد او يُسجّل هدفاً من خارج الملعب.. هناك امر لا بدّ أن يُعرف، لبنان لا تستطيع فيه أن تبقى بلا رئيس للجمهورية وبلا رئيس حكومة أو حكومة وبلا قانون انتخاب.
هذه سلّة متكاملة، ونحن في طرحها نستنسخ ما قمنا به في الدوحة عام 2008. ولكن مع الأسف هناك مَن بدأ التشويش والتخويف بالقول إنّ هدفنا هو الوصول الى المؤتمر التأسيسي، فأيّ كلام هذا؟
أذكّر هؤلاء، يقول برّي، بأنني كنتُ أعاني عارضاً صحّياً (تسمّم غذائي) منتصف الشهر الجاري، وكانت «حالتي حالة»، مع ذلك تحاملت على نفسي وقرّرت أن أُشارك شخصيّاً في افتتاح مؤتمر الاقتصاد الاغترابي فقط للتطمين ونفي كلّ اتهام والقول حرفياً «الالتزام بـ»اتفاق الطائف» نهائي، ولا يعتقدَنّ أحدٌ أنّ بإمكانه التفكير في أيّ مؤتمر تأسيسي جديد، فـ»اتفاق الطائف» ليس قرآناً ولا إنجيلاً، لكن «ولا وارد أبداً» تبديله».
اؤكّد مجدداً، يضيف برّي، أنّ المسألة لا تُحلّ إلّا مثل المسار الذي اعتمدناه في الدوحة، إلّا إذا تمكنّا من إقرار قانون انتخابي على اساس النسبية وساعتئذ يخضع كلّ الناس للعبة الديموقراطية، ويتشكّل الحكم والحكومة على أساس ما تفرزه النتائج، وطالما أنّ الأمور لا تشي حتى الآن بإمكان الاقتراب من النسبية لا بل هي تقترب الى الستين، فلنذهب الى تدارك الأمور قبل وقوعها في السلبية، وأمامنا جلسات الحوار التي ينبغي أن نقاربها كفرصة اخيرة، وإن لم يريدوا اعتبارها كذلك فلا حول ولا قوة إلّا بالله.
السلّة الكاملة هي الحلّ، يؤكّد برّي، ويذكر: «عندما انتخبنا ميشال سليمان، ألم نكن متفقين عليه قبل أن نذهب الى الدوحة. نعم كنا متفقين عليه وكنت قد أعددت «فتوى مبكّلة» لذلك، ومع ذلك لم ننتخبه لأنّ انتخاب رئيس الجمهورية وحده ليس كافياً، بل يجب أن يرضي كلّ الناس. وبالفعل ذهبنا واتفقنا على الرئاسة وعلى رئيس الحكومة والحكومة وقانون الانتخاب وعدنا وطبّقنا ما اتفقنا عليه».
ثمّ توجّه برّي الى الفرقاء السياسيين بسؤال: «هل تعتقدون أنّ انتخابَ رئيس الجمهورية وحده يحلّ المشكلة؟ ثمّ يجيب أبداً، هو يحلّ جزءاً من المشكلة وليس كلّ المشكلة. ولنفرض أننا انتخبنا رئيساً للجمهورية الآن، فسنعلق حكماً بمَن هو رئيس الحكومة، وإن وُجد رئيس الحكومة بعد عناء فكيف ستتشكل الحكومة؟ أنا على يقين أنه في هذا الجوّ الذي نعيشه «غير الله ما بيطلّع الحكومة».
أما ملف النفط، فيُخزّن برّي له الكثير من الكلام، ويقول: «مشكلتنا في لبنان أنّ الوزير لا يشتغل شغله، بل يريد أن يشتغل شغل غيره، حتى تكاد لا تعرف مَن هو وزير هذه الوزارة أو تلك.
المؤسف أنك تقول كلمتك في هذا الموضوع قبل ثلاث سنوات، ثمّ يأتونك موافقين على كلّ كلمة قلتها، ويتمنّون عليك بإلحاح أن تسعى الى اتفاق داخلي حول هذا الأمر وتأكيد ضرورته. والأنكى أنك عندما تتوصّل الى هذا الاتفاق، يتّهمونك بأنك «عم تعمل محاصصة»، فاحترنا يا قرعة منين بدنا نبوسك».
ويضيف: تمكنّا من بلوغ التوافق السياسي حول النفط، فأقاموا القيامة وكأننا هدمنا الهيكل، في الوقت الذي قال فيه الأميركيون «بالمشبرح» وأنا مسؤول عن كلامي، لزّموا البلوكات السبعة، باستثناء بلوكات الجنوب الثلاثة، لأننا لسنا قادرين أن نحلّ مشكلة إسرائيل، ومع الاسف هناك في الداخل مَن يتنطّح عن قصد أو عن غير قصد، ويَحمي أميركا ومِن خلفها إسرائيل.
أكثر ما يضحكني، يلفت برّي، مَن يقول أن نؤجّل السلّة، أو النفط ولا يجوز أن نقاربهما قبل انتخاب رئيس الجمهورية. إن سكتنا مصيبة، وإن حكينا وبقّينا البحصة يمكن مصيبة أكبر، فيا جماعة الخير، إذا باشرنا بالموضوع الآن وانتخبنا رئيساً للجمهورية الآن، أو في الأمس، وبدأنا بالمسار النفطي غداً، فأنا اقول لكم إنه ينتخب الرئيس الجديد وينتهي عهده وننتخب رئيساً جديداً ولا نكون قد دخلنا في المراحل التنفيذية الفعلية للملف النفطي، وأعتقد أنّ من الافضل الكفّ عن هذه المبالغات.