يوماً ما يفترض أن يُكتب تاريخ المبادرات التي قامت من أجل تفعيل تأليف الحكومة في سياق أزمة هي “إحدى أشد ثلاث أزمات في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر”، كما وصفها البنك الدولي، لتعدد “الفيروسات المتحورة” التي أطالت الفراغ الحكومي عبر اختلاق الحجج للحؤول دون نجاح أي من المحاولات التي جرت، منذ تكليف السفير مصطفى أديب في 31 آب الماضي، ثم إفشاله واعتذاره، مروراً بتكليف الرئيس سعد الحريري في 22 تشرين الأول، انتهاء بالوساطة المتجددة التي يقوم بها رئيس البرلمان نبيه بري.
منذ تكليف السفير أديب قدم بري المبادرات، حتى أنه وافق على التخلي عن مبدأ استثناء وزارة المال من المداورة بناء لتدخل الرئيس إيمانويل ماكرون، إلا أن “حزب الله” تمسك بإبقائها في يد الطائفة الشيعية، فمهّد ذلك لتسلسل العراقيل. على رغم اعتماد الأخير على تسهيل بري لعملية التأليف، بقيت شروط الفريق الرئاسي في صدارة التعطيل، الذي تعاطى معه الوسط السياسي برمته، ومنه الرئيس المكلف، بمرونة قضت بالفصل بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وبين صهره، في ما وصفه الحريري مرة “زيارات الليل” التي كان يقوم بها جبران باسيل لتغيير رأي الرئيس. توخى الفصل بينهما، إبقاء الباب مفتوحاً للأخير كي يبدي ليونة. هذه المراهنة كانت تلاقي ما يقوله عون خلال لقاءاته مع الرئيس المكلف، والأهم، بيانات الرئاسة، بأن باسيل لا يتدخل في التأليف ولا علاقة له بالمداولات الحكومية. لكن الأمر انقلب إلى لوم عون الحريري، لأنه لا يلتقي رئيس أكبر كتلة نيابية…
بعد شهرين ونيف على تكليف الحريري، وإثر انكفاء بري عن الوساطات والمبادرات، لشعوره الضمني بأن حليفه “حزب الله” لا يمارس نفوذه على حليفه الثاني كي يبدي بعض المرونة، جدد كثر مطالبة بري بالمبادرة لتسهيل التأليف، ومنهم رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، اعتماداً على تمسك الأول بعدم خلق منهجية تناقض الدستور. يومها قال السنيورة من على باب بري إن كل يوم تأخير في التأليف يوازي إضاعة شهر في المعالجات المطلوبة للأزمة المالية الاقتصادية. بمضي 5 أشهر، يعني أن لبنان أضاع 150 يوماً، توازي وفق المتوالية الهندسية، وإذا صحت فرضية السنيورة، 12 سنة من إضاعة الوقت والفرص، في تطبيق وصفات الخروج من الحفرة. وإذا كان يحق للبعض أن يشكك في حسابات السنيورة فإن ما يقوله البنك الدولي مرعب. وربما يفسر ذلك الفارق بين النموذج اليوناني المتعافي، والنموذج الفنزويلي المتداعي، الذي مع ذلك، لديه الثروة النفطية.
هناك من يعتقد ببساطة، أننا لو كان لدى رئيس الجمهورية بعض المرونة، لكان اقتنع بأن من أسباب ما بلغه لبنان، حكومات الوحدة الوطنية التي كانت مصغّراً عن البرلمان، فقدّست المحاصصة، وشرّعت الفساد في الكهرباء والاتصالات، والمزايدة في سلسلة الرتب والرواتب، والزبائنية في الإدارة… هذا النوع من الحكومات لم يعد صالحاً للتغطية على تقاسم المغانم التي نضبت. وهذا السبب الجوهري لاشتراط المجتمع الدولي الاختصاصيين غير الحزبيين.
لو أراد عون الاقتناع بذلك لكان أبلغ الحريري بموافقته على تغيير أسلوب التأليف، ولَتَرك له أن يؤلف حكومة تدعمها الكتل التي سمته. ولو أراد لكان اقتنع مع أقرب المقربين إليه الذين يشاركونه الحملة القاسية على الحريري، حين قالوا له قبل شهرين: اتركه يؤلف، وليتحمل هو المسؤولية.