تأليف الحكومة البطاقة الحقيقية للخروج من الازمة ووقف الانهيار
لم يعد هناك اي شك في ان الانهيار الذي وصلت البلاد الى درجة متقدمة منه، لن يداوى بالمسكنات والوصفات المرتجلة تعويضا عن العلاج الحقيقي الذي تشكل الحكومة الجديدة مدخله الطبيعي.
والواضح من خلال تجربة الثمانية الاشهر منذ تكليف الرئيس سعد الحريري، ان الازمة الحكومية هي داخلية بنسبة كبيرة، لكن الصحيح ايضا، ان التداخلات بين الاسباب الداخلية والعوامل والمؤثرات الخارجية، شكلت وتشكل عوامل اضافية لاطالة الازمة.
منذ اشهر، قاد الرئيس نبيه بري محاولات عديدة للمساعدة في تحقيق اتفاق او توافق على التشكيلة الحكومية بين رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره رئيس تكتل لبنان القوي النائب جبران باسيل من جهة، والحريري من جهة اخرى، لكنه كان يصطدم في كل مرة بالشروط المتبادلة بين الطرفين، والتي اتضح لاحقا عند عون وباسيل انها تتجاوز المطالب المتصلة بالتوليفة الحكومية الى ازمة ثقة عميقة مع الحريري بعد سقوط التسوية بينهما، والتداعيات التي تلتها، لا سيما اثر اندلاع الاحتجاجات الشعبية في ١٧ تشرين، ثم استقالة الحريري في طريقة انقلابية على الرئيس عون والعهد.
كما ان الحريري الذي اقدم على الترشح، اعتقد انه يستطيع ان يكون مطلق اليدين اكثر في تشكيل حكومة الاختصاصيين، لا سيما في ضوء جرعة الدعم القوية التي تلقاها في حينه من باريس، قبل ان تكتشف حجم تعقيدات ازمة تشكيل الحكومة في لبنان. والحقيقة ان فرنسا ربما بالغت في تقدير قوة وتأثير الحراك الشعبي والمجتمع المدني بعد اندلاع انتفاضة ١٧ تشرين، وبالتالي، راهنت على الاعتماد عليه كقوة ضاغطة على القوى والاطراف السياسية في انتاج حكومة ذات مواصفات استقلالية نسبيا، لكن رهانها لم يكن في محله، بعد ان اكتشفت تدريجيا ان هذه القوى ما زالت تمسك بزمام اللعبة السياسية، بما فيها عملية تشكيل الحكومة.
ومع تأزم العملية، لم يكن هناك بد، من تفعيل المساعي لتذليل العقبات في وجه تأليف الحكومة، وكان من الطبيعي ان يتولى هذه المهمة بري بالتعاون مع اطراف اخرى، ابرزها حزب الله ووليد جنبلاط، وبعد ثلاث نسخات من المبادرات التي طرحها لاجتراح الحلول للازمة الحكومية، وجد الرئيس بري نفسه في مواجهة مباشرة مع الرئيس عون وصهره باسيل، متهما بالانحياز للحريري لمجرد انه لم يلب او يتفق مع رئيس الجمهورية على تطيير الحريري، ولم يغط مطلب الثلث الضامن، بل المعطل الذي سعى ويسعى اليه باسيل ظاهرا ومقنعا من خلال رفع شعار الوزراء المسيحيين للمسيحيين والوزراء المسلمين للمسلمين. هكذا ببساطة فسر المادة ٥٣ المتعلقة بتشكيل الرئيس المكلف الحكومة بالاتفاق مع رئيس الجمهورية، على انها تقر بشكل او بآخر ان يسمي الرئيس المسيحي وتياره، في غياب مشاركة قوى مسيحية اخرى في الحكومة، الوزراء المسيحيين، ويحجب عن رئيس الحكومة المكلف حق تسمية اي منهم.
كذلك الحريري ، الذي ابدى مؤخرا موقفا ايجابيا من صيغة المبادرة الثالثة، كان قد ساهم سابقا في تصعيب مهمة التأليف، عندما تشبّث لفترة غير قصيرة بتشكيلة الـ ١٨ وزيرا، وتشدد في معالجة عقدة وزارتي الداخلية والعدل.
ولم يبدد او يسقط الحريري الاتهامات التي وجهها اليه الرئيس عون والنائب باسيل حول تكاسله في سعيه الجدي لتأليف الحكومة بسبب «الفيتو» السعودي من جهة، ومخاوفه من تحمل حكومته عبء القرارات الاقتصادية والاجتماعية الصعبة مثل رفع الدعم وتطبيق «روشتة» الصندوق الدولي الصعبة والتي ستكون بطبيعة الحال غير شعبوية قبل الانتخابات النيابية.
وفي ضوء كل ما حصل حتى الان، كان من الطبيعي ايضا ان يشتد ضغط الازمة على اللبنانيين، نتيجة فلتان السوق وغياب حكومة تصريف الاعمال واستمرار تدهور الليرة وضمور احتياطي مصرف لبنان، بعد استهلاك ما يقارب ثمانية مليارات دولار على الدعم التي ذهب نصفها واكثر الى التجار والمهربين والمصارف.
ومع استمرار الازمة الحكومية، وجد القيمون على البلد انفسهم امام حقيقة الوضع الجهنمي الذي كان الرئيس عون قد تحدث عنه منذ اشهر، دون ان يعمل مع الآخرين على تفادي هذا السقوط في نار الانهيار الشامل.
ولاستدراك النتائج الكارثية على الاستقرار العام في البلاد، استسهل اصحاب القرار اللجوء الى الاجراءات الترقيعية غير مضمونة النتائج مثل البطاقة التمويلية ورفع الدعم الكلي عن الغذاء وترشيده مؤقتا على المحروقات وتقليصه على الدواء. فهل يمكن ان توفر هذه الخطوات جزءا بسيطا من حل اللانحدار الخطر الحاصل؟
بالطبع لا، فالبطاقة التمويلية بالصيغة التي اعتمدتها اللجان النيابية، لا تستطيع ان تملأ فراغ ما سيلحق باللبنانيين من اعباء وأذى، جراء رفع الدعم واستمرار الارتفاع الجنوني للدولار من دون اي ضوابط في ظل انعدام الثقة بالدولة وغياب الحل السياسي للازمة.
ووفقا لاكثر من مصدر، فان تغطية ٥٠٠ الف عائلة بالبطاقة المذكورة، لن يشكل حلا وعلاجا للازمة الاجتماعية المرشحة للتفاقم، اذا استمرت الازمة الحكومية، وتلفت المصادر الى ان ارتفاع اكلاف النقل والمعايير التي ستعتمد للمستفيدين من البطاقة ستجعل فئة غير قليلة من الموظفين والعاملين في القطاعين العام والخاص خارج التغطية، وتحت عبء اضافي، بسبب ارتفاع الاسعار واجور النقل وارتفاع سعر المحروقات واشتراكات المولدات وغيرها.
وتشير ايضا الى ان الحل الاخير لازمة المحروقات ليس مضمونا، وهو مبرمج لثلاثة اشهر. وهذا يبعث على الاعتقاد ان المسؤولين ربما اتخذوا هذه الخطوة في اطار سياسة الهروب الى الامام آخذين في الاعتبار استبعاد تأليف الحكومة في المدى المنظور.
وتؤكد المصادر ان هذه السياسة الترقيعية لن تجدي نفعا، ولا تشكل علاجا للازمات المتفاقمة ما دام ان الحل السياسي مفقودا وما دامت الحكومة الجديدة لم تولد بعد، وتعتقد المصادر ان ما صدر عن وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان امس، وتأكيده وجوب ممارسة الضغوط على السياسيين اللبنانيين لانهاء مأساة السعب اللبناني، ليس موقفا جديدا، لكن الجديد هو اعلانه ان فرنسا قررت ادارة الازمة غي لبنان بالتنسيق مع الولايات المتحدة الاميركية وممارسة المزيد من الضغط، وقوله « اننا نعرف من هم الذين يتسببون بالازمة».
وباعتقاد المصادر ان عبء قرار رفع الدعم الذي كان يقال انه احد اسباب تأخير الحكومة ومخاوف الحريري قد زال اليوم، وان الازمة تكاد تكون محصورة بالاتفاق على التشكيلة الحكومية وتسمية الوزيرين المسيحيين. لكن قبل هذا وذاك، فان تأليف الحكومة مرهون بتبديد او تخفيف ازمة الثقة بين عون والحريري وعقد نوع من التسوية العامة لانتاج الحكومة والتعايش معها للجم التدهور وتمرير الاستحقاق الانتخابي.
فهل تتحقق هذه المعادلة قريبا ام يبقى الوضع مفتوحا على مزيد من التطورات والتوترات الاجتماعية والامنية؟